Pages

Saturday, April 9, 2011

مقالة اليوم: حنكشتيكا يلتقي بالحمار ورد في أريحا



حلقات حنكشتيكا الساخرة
حلقة رقم: 11
أريحا 
للتذكير لمن نسي، وللتبليغ لمن لم يطلع، أشير إلى خلفية اللقاء الذي جرى بين حنكشتيكا وحماره أبي صابر. فقد التقى الإثنان، منذ عدة سنوات في جبل المكبر، أحد أحياء مدينة القدس، والتقط حنكشتيكا لنفسه ولحماره صورا، بصحبة صبية من عشائر السواحرة، وهم يتظاهرون ضد الجيش الإسرائيلي، واعتمر الحمار في حينه الكوفية الفلسطينية، وقرأ في موسوعة المعلومات عن أصل المأساة الفلسطينية، وما آلت إليه أوضاع القضية الفلسطينية بسبب أفعال أصحابها  الفلسطينيين والعرب، وضعف حالهم وانقسامهم ونزاعاتهم الكثيرة وأهم من كل ذلك غبائهم ووهن نظامهم السياسي، وهشاشة لُحمتهم الإجتماعية.
وقبل أن يبدأ حنكشتيكا مدونته، مؤخرا، حاول البحث عن حماره القديم، فالتقاه في إحدى مقاهي الانترنيت، وقد تغيرت أحواله، وبدت على ملامحه الوهن والتقدم في العمر، لكن الجدية والرصانة لم تغادر وجهه ولا تصرفاته، وكان كلامه يعكس عمق ثقافته. فتجاذب معه اطراف الحديث، ولكنهما اختلفا – كما أسلفنا في حكايات نشربت مؤخرا-في مواقفهما تجاه الثورات العربية.
أحس حنكشتيكا أن هناك بعض التقارب في الأفكار والمواقف بين الحمار أبي صابر وصديقه القديم أبي معروف، بل إنهما توجها معا إلى وادي عبقر في محاولة منهما للبحث عن أشياء مفتخرة في حضارة أمة الحمير، وانتظرحنكشتيكا عودتهما وطال انتظاره.
وكما ذكرت قبل أيام في حكاية الحمار الفصيح، كانت الحمير، مثل معشر البشر تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وترتاح عندما يصيبهم تعب وتشرب الماء الصافي إن عطشت، وتميزت حياتهم عن غيرهم من الحيوانات والبشر بالصدق والصراحة.
والأهم من كل هذا وذاك، إنهم كانوا يتحدثون لغة واضحة وكانت أوتارهم الصوتية قوية ومرنة، فتخرج الكلمات من أفواههم قوية، فحاكوا أصوات الطبيعة، وتمكنوا من صياغة أفكارهم والتعبير عن حاجاتهم وعواطفهم بلغة لها جرس موسيقي، فكتبوا الشعر الملحمي، وكانت لهم ما لهم من الاسهامات في الحضارة والتقدم.
لما تبدل حالهم، وفقدوا شجاعتهم، وأصبحوا فريسة للخوف، استكانوا واستسلموا وأصبحوا عبيدا للإنسان، بلهاء، ضعيفى الإرادة والقوة العقلية، عاجزين عن التعلم، لا يحسون بأنفسهم ولا بآلامهم ولا بآلام غيرهم، أصابتهم بلادة قاسية، واختل توازنهم وفهمهم وإدراكهم للإمور وأصبحوا  غير قادرين على تمييز الصحيح من الخطأ بل صاروا يفعلون أفعالا منافية للعقل والإحساس مثل المشي عراة في الشوارع، والتبول على قارعة الطريق، وصار كل همهم البقاء على قيد الحياة واستمرار النسل، وفقدوا الرغبة بالمجازفة وحب المعرفة والمغامرة ونقلوا صفاتهم الوراثية إلى أبنائهم، ونسوا أنهم كانوا أكثر رقيا من البشر، بعبارة واحده، صاروا بكما لا ينطقون إلا بالهاق الهاق.
وما تبقى من لغتهم كانت هذه الهاق الهاق المكونة من مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر صارت الهاق كل ما يستطيعون قوله للتعبير عن جميع حاجاتهم ورغباتهم وعواطفهم وأفكارهم بالنهيق.
بيد أن حمار حنكشتيكا القديم كان مختلفا، لما التقاه في مقهى العم الشنب في حارة السعدية داخل أسوار البلدة القديمة، كان يتدفق أفكارا ورغبات وعواطف، فأخذ يتساءل عن سر ذلك. كان هذا السؤال ذاته الذي أقلق أبا معروف الصديق الحميم لـ حنكشتيكا. وهو السؤال الذي قد لا يعبأ به كثيرون، وحتى أنا الذي أقف وراء هذه المدونة، أنا الذي اخترعت شخصية حنكشتيكا وحماره، لم يخطر ببالي أن أسأل حماري القديم: من أين لك هذا اللسان الفصيح.
ويبدو أن أبا معروف الشديد الملاحظة، قد انتبه إلى فصاحة لسان الحمار ورزانة عقله، فأثار في نفسه فضولا هائلا لكشف السر. وبدأ يقرأ أسفار القدماء لعله يظفر بشيء من المعرفة عن أمة الحمير الذين كانوا شعبا حضاريا بل أكثر حضارة منا نحن البشر.

طالت غيبة حمار حنكشتيكا السابق وأبي معروف في وادي عبقر، ولا يمكن له أن يعيش ولو ليوم واحد دون أن يرافق حمارا، قال حنكشتيكا لنفسه: أخشى أن تطول رحلتهما، وقد لا يعودا، وإن عادا، قد يتغير الحمار عليّ، وربما تتوطد علاقته بصديقي أبي معروف، فيتخلى الحمار عن صحبتي.
فكر حنكشيتكا بالأمر، وقرر أخيرا أن يتوجه إلى مدينة أريحا الزراعية، وهناك يفتش عن حمار آخر يحادثه ويصادقه ويشكو له همه وألمه.
غادر حنكشتيكا مدينة القدس صباح يوم الجمعة الماضي وتوجه إلى أحد المزارعين ويدعى صبحي، وكان شابا في الثلاثينات من عمره ويلقب بأبي الجاج، وذلك لأنه يقوم بتربية الدواجن ويستفيد من لحمها وبيضها، فتوجه إلى بيته، الكائن في الشارع الموازي لشارع عمان، فوجده جالسا أمام بيت خشبي للطيور، فرحب به، وأدخله إلى بيت الطيور، وهناك اكتشف أن صبحي كان يربي البلابل ذات الريش الأصفر، وكانت تسكن في بيوت فخارية، وتتمتع بأصوات عذبة شجية، فجلس إلى جانبه وحدثه عن حاجته لحمار يكون صديقه الصدوق، لبى أبو الجاج الدعوة حالا، واصطحبه إلى حمارة جاره أبي محمد.
لسوء حظه، كان لدى حمارة جاره ابنة، فاقترب حنكشتيكا منها، ومد يده إلى رقبتها، في محاولة منه التودد إليها، فخشيت الحمارة على ابنتها وظنت أن حنكشتيكا يريد الإيقاع بها، فرفسته رفسه برجلها الخلفية، وكادت أن تصيبه في المكان الصعب، لولا أن أبا الجاج هب لنجدته، وأنقذه منها.
ابتعد حنكشتيكا عن الحمارة. وذهبا مشيا على الأقدام إلى مزرعة العم أبي حمدان المجاورة،وهناك التقيا بالحمار ورد،وكان حمارا عاقلا وودودا، ويجر عربة ملأى بصحاحير البندورة. فجلسا وتعارفا تحت شجرة البلح، بل إن أبا الجاج اقترح أن يجلب لهما أرجيلة، لكن حنكشتيكا رفض العرض وفضل أن يشرب الشاي في جلسة التعارف الأولى.
قال الحمار ورد: أنت تعلم يا حنكشتيكا أننا نعبر عن  جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا بالنهيق، أي نقول هاق هاق. ولكن 
هذا هو النهيق هو الذي تبقى من لغتنا ، لغة الحمرنة. استغرب حنكشتيكا من قول ورد، وأيقن أن ما قاله حماره السابق كان صحيحا، فزادت حماسته لمعرفة المزيد عن هذه الأمر. وقال في نفسه: لعل الحمار ورد قد رسخ علمه، وعمق فكره، وقد أوتي من العلم أكثر من حماره السابق أبي صابر الذي ذهب إلى وادي عبقر ليعود بالعلم المؤكد عن أمة الحمير وحضارتهم.
ولولا وجود شهود من المزارعين والبدو وأحد المصورين المشهورين في مدينة أريحا، لما صدق حنكشتيكا ما سمعته أذناه، فمد ذراعه وربت على رقبة الحمار، ليشجعه على الإسهاب في القول. كان ما سمعه منه أمرا مثيرا للغاية.
في هذه اللحظة، وصلت إلى جهازه النقال أخبار عاجلة من ليبيا وسوريا واليمن، فاضطر أن يستأذن من الحمار، بعد أن حدد معه موعدا لاحقا، ليستمع منه إلى بقية حكاية أمة الحمير التي تميزت في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، بقدرتها على التحدث بلغة أهل البشر. 



0 comments:

Post a Comment