Pages

Friday, April 22, 2011

الفيقهي حنكشتيكا وزير الكيف وحماره في برج القاهرة


حكايات حنكشتيكا الساخرة
الحلقة رقم 22
سعيد الغزالي-القدس المحتلة

كان اسمه قبل وبعد الثورة العظيمة في مصر حنكشتيكا العظيم.
كان عظيما قبل الثورة وبقي كذلك بعدها. فالعظمة تدخل في الجينات، ولا تخرج منه إلا بعد موته، كان شكلا "دبل كابينا"، ووظيفةً وزيرا للكيف، وبحكم وظيفتة السابقة كموظف كبير في وزارة الداخلية برتبة وزير، وبحكم عمله كحائط مخيف يصد الفاسدين وتجار الكيف، وبحكم حبه المشي في خطوط مستقيمة طوال أيام الإسبوع إلا في الأعياد وأيام الجمع، وبحكم ماضيه الذي لا شائبة فيه إلا واحدة أو اثنتين، وبحكم أنه كان وردة في مزبلة النظام السابق، ابتعد حنكشتيكا بعد استقالته عن الحياة العامة، وتفرغه للعمل في خدمة الناس، وأبقى بابه مفتوحا للسائل والمتظلم، بعبارة اخرى استخدمه النظام كحمار 
يتلطف في حديثه عن النظام.
بكلمة واحدة، كان حنكشتيكا رجلا فيهقيا.
والفياهقة لهم دور كبير في التاريخ السياسي للمنطقة ابتداءً   من حملة نابليون على مصر. واقتصر دورهم على تجميل وجه النظام، وان اختلف النظام مع المعارضين، يقول الفياهقة: يا  جماعة، إحنا إخوان، العبوا زي الخوات. وكان الناس المساكين، يلعبوا زي الخوات، وبعدين يروحوا "فطيس".

 اصطحب حنكشتيكا حماره إلى برج القاهرة ليطلا من علٍ على أحوال مصر المتبهدلة وشؤونها المتبدلة. وصلا إلى البرج في منطقة الجزيرة وطارا في المصعد إلى المنصة الدوارة، ونظرا إلى الإهرامات وأبي الهول ونهر النيل وقلعة صلاح الدين وأحسا أنهما يشاهدان مصر كلها، مصر العظيمة التي تخلصت من مباركها وسوزانها وجمالها وعلاءها، وصفوت شريفها، وحبيب عادلها، وأحمد عزها، وعدد لا يستهان به من ظلامها وناهبيها وحارقيها ومدمريها، ومشعلي الفتنة بين قبطها ومسلميها، وهازميها، وقاتلي عزتها، ومصاصي دمائها، وآكلي لحمها، الذين أذلوها وهتكوا عرضها، ومرغوا كرامتها في وحول السياسة الدولية.
 وكان حصادهم انحطاطا وفقرا وهزائم وجرائم وتآكل في القيم والأخلاق وانفلات أمني وفوضى وظلم للناس. 
قال حنكشتيكا لحماره: الآن، بعد أن حققت الثورة المصرية بعض الانتصارات الباهرات، اصبح مزاجي رائقا وأستطيع أن أغني أغنية عبدالحليم حافظ
انتصرنا، وانتصرنا
انتصرنا يوم ما هب الشعب وثار
يوم ما أشعلناها نور ونار
يوم ما أخرجنا الفساد
يوم ما حررنا البلاد
انتصرنا وانتصرنا...
دبت الحماسة بالحمار، وأخذ يردد كلمات الأغنية التي ترسبت في وجدانه منذ انتصار ثورة 23 يوليو المجيدة، ومنذ ذلك الوقت، مشت العجلة الدوارة إلى أن سقطت في مستنقع الفساد واستقرت في وادي الاستبداد.
كرر الإثنان الغناء فرحين بهذا النصر الكبير الذي جعل الشعب يريد ويكون له ما يريد. وكان ذلك إعجازا تاريخيا، لم يحدث شيء يشبهه في التاريخ الماضي أو الحديث والفضل كل الفضل لتكنولوجيا الإتصالات، وخدمات الأنترنيت الرائعات. يا سلام، ما أجمل الثورات المنتصرات.
قال حنكشتيكا مخاطبا: مبروك لك النصر وأبارك لنفسي.
الحمار: وأنا أتبادل المباركة معك، ولكن ماذا يجب أن نفعل الآن.
حنكشتيكا: هناك أشياء كثيرة يجب أن نفعلها فورا. أولها أن نضع قانونا جديدا للمرور نطبقه في جميع أرجاء مصر.
الضوء الأحمر يصبح أخضر والأخضر يصبح أحمر، ونلغي الضوء البرتقالي، ونستبدله بالضوء الأزرق. وبذلك نحل مشكلة المرور المزمنة. نغير ألوان خطوط المشاة من البيضاء إلى الصفراء. ونستبدل كل إشارة قف بإشارة امش. وذلك تخليدا لشعار: امش يعني غور، الذي رفعناه ضد مبارك. ونغير إشارة ممنوع الدخول، باشارة مسموح الدخول.
هز الحمار رأسه موافقا، أو غير مستوعب لما يقوله حنكشتيكا، أو مشكك به. لكنه لم يعترض.
أضاف حنكشتيكا: وثاني شيء نقوم به، أن نشجع كل مواطن أن يقوم بتغيير جاره ويستبدلة بجار آخر.
ارتعدت فرائص الحمار وخشي أن يقوم حنكشتيكا بتغييره بحمار آخر، فيصبح من الحمير المشردة في الشوارع، التي لا معيل لها. لكنه صمت حتى يسمع بقية كلام سيده.
اضاف حنكشتيكا: وثالث شيء، كل زوج يطلق زوجه ويتزوج أخرى، والزوجة تطلق زوجها وتتزوج بآخر. والصديق يستبدل صديقه بآخر. والحبلى تجهض وغير الحامل تحبل، ومن كانت قبل الثورة تتبرقع وتتحجب تنزع بعد الثورة برقعها وتمزق حجابها، ومن كانت قبل الثورة لا تتحجب ولا تتبرقع، بعد الثورة تتبرقع وتتحجب. كل ما كان ممنوعا قبل الثورة يصبح مسموحا بعدها، وكل ما كان مسموحا قبلها، يصبح بعدها ممنوعا. من كان عاليها يصبح سافلها، ومن كان سافلها يصبح عاليها، وهكذا دواليك...
توقف حنكشتيكا عن الكلام للحظات، ليشاهد تأثير حديثه على الحمار. وكان الحمار يهز رأسه، ويحرك ذيله، وهي اشارة تدلل على عدم موافقته عما يقوله حنكشتيكا.
قال حنكشتيكا غير آبه برأي حماره: الشعب يريد أن يغير كل شيء، أليس كذلك. الشعب يريد أن يغير كل شيء. الشعب يريد، ومن يجرؤ على أن يقول للشعب، انا لا اريد. الحمار لا يجرؤ أن يعترض على إرادة الشعب، فترك حنكشتيكا يسترسل في كلامه دون اعتراض.
قال حنكشتيكا: سيبدأ الشعب بتغيير أماكن سكناه وينتقل من عيشة القبور إلى عيشة القصور، ويعيش في حبور، والذين كانوا يعيشون في القصور ينتقلون للعيش في القبور، ويمنعون التمتع بمشاعر السرور.
 الشعب لا يريد أن يأكل من خبز التنور، ولا ان يقف في الطابور، الشعب يريد أن يحيي الحفلات، ويستمتع بالغانيات الفاتنات، ولا يشرب من ماء الحنفيات العكرات، الشعب يريد أن يتحدث عن الحريات والديمقراطيات في الصالونات فقط. الشعب يريد أن يغني انتصرنا وانتصرنا
انتصرنا يوم ما هب الشعب وثار
يوم ما أشعلناها نور ونار
 إذهب يا حماري إلى حال سبيلك، فأنا أعتقتك لوجه الله تعالى وتلبية لنداءات الثورة بالتغيير، هيا يا صاحبي، انزل من برج القاهرة واسلك في الأرض أي مسلك تريده، واختر لنفسك ما شئت، كل ما شئت من أطايب الطعام، واشرب ما رغبت من الشراب، اذهب إلى حي الباطنية، ولا تعمل حسابا لأحد، كيّف وتكيف، خفف عني وتخفف مني، وامش في الطريق، فأنت حر طليق، إن شئت ألا تذهب إلى الباطنية، اذهب إلى حي المهندسين أو اختر لك قصرا يطل على النيل، وتمتع بالحياة الرغيدة فيه، ونل ما شئت من الحور العين وما أكثرهن في غرف النوم والفنادق وصالونات التجميل. تبغدد وتدلل وتدلع.
وانتصرنا انتصرنا انتصرنا
يوم ما هب الشعب وثار
يوم ما أشعلناها نور ونار
إذهب عني، عش ناسكا إن أردت أو شيخا، ابتعد وأبعدني عن سيرة الشيوخ والمشايخ، واجعل بيني وبينك فراسخ، ودعني أدبر شأني، وأأُبعد عن نفسي النقم، اذهب، تمتع بحريتك، واشرب كوكا كولا واحمد الله على النعم.
حزن الحمار على فراق سيده، وتوجه إلى المصعد، فأمسك حنكشتيكا بذيله، وقال له: لا تغادر إلا من الزريبة، بعد أن أودعك بوليمة، وأعطيك حقوقك القديمة، وأدفع لك بدل سنوات الخدمة، فأنا لا أغمض حقك.
سارا معا إلى الزريبة الواقعة تحت منزل حنكشتيكا المتواضع والمتصل بحديقة مزروعة بأشجار مهملة وزهور ذابلة، وانتشرت الحشائش والأشواك في أرجائها. وهناك نظر الحمار حوله فرأى أن كل شيء لا يزال على حاله. لا يزال سيده حنكشتيكا يعيش في بيت هو شكل سريالي من أشكال الخرابة، ولا زال الأثاث داخله مهترئا، والبلاط مكسرا، والجدران مشققة، والعنكبوت معششا في الزوايا، ولا زالت الديابة تدخل غرفه وتتحكم في حياة ساكنيه.
سال الحمار حنكشتيكا: أين هي الحرية والديمقراطية؟ وأين أذهب و أي مسلك أسلك، وأنا لا أعرف سيدا غيرك، ولا أفعل شيئا آخر غير طاعتك سيدي، ولم أعرف منزلا غير الزريبة التي أعيش فيها، ولا أتقن عملا أو صنعة أكسب منها قوت يومي غير حمل الأثقال على ظهري، وحياة الكد والتعب، ولا أتقن لغة غير لغة الهاق الهاق.
 كلما أحست بالجوع أو العطش. أنتظر منك أن تسد جوعي وترويني. صمت الحمار للحظة وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه ونظر إلى سيده وقال: أنا لن أرحل سيدي حنكشتيكا، وسأبقى أعيش في هذه الزريبة، آكل من شعيرك إن أطعمتني ومن القمامة إن جوعتني، وأشرب من ماءك، إن سقيتني ومن ماء الترعة العكرة إن عطشتني. وسأبقى على عريي، لا شيء يستر مؤخرتي ولا مقدمتي، فأنا والشقاء صديقان حميمان لا يفترقان إلى يوم الساعة، وكذلك صحبتنا وعلاقتنا، انت سيدي وأنا عبدك وسنبقى كذلك إلى يوم الساعة. وهذا أمر ظاهر للعيان، وليس بحاجة إلى شرح وبيان، ولا يمكن لإحد أن ينكره، فهل تنكره؟ فإنت قلت لي: اذهب لا أعرف إلى أين أذهب؟ وأين أحصل على منزلي مأكلي ومشربي وملبسي؟ لن أذهب.  
حنكشتيكا: لكنني تعبت من الاحتجاجات في ميادين التحرير والتغيير، وأريد أن ارتاح في قصر عابدين أو أي قصرعلى ربوة عالية، وأشم هواء عليلا، وحولي ما تشتهيه النفس من السراري والغلمان المخلدين. وقد زهقت من رفقة حمار، ولا أريد أن يبقى رفيقي حمار إلى أبد الآبدين.  
الحمار: أتريد أن تعيش في قصر وتشم هواء عليلا، وحولك السراري والغلمان، ولكن أين هذا المهندس الذي سيرسم لك مخطط القصر الجديد. وأنت لست مؤهلا لهذا الفعل. وأخشى إن قمت بالبناء دون أن تعتمد خطة مدروسة أن تبني خرابة أخرى أسوأ من الخرابة التي نعيش فيها، ويكون منزلك أحط من كوخ، وزريبتي "أسريل" من روحي المتشظية.

0 comments:

Post a Comment