Pages

Saturday, April 16, 2011

"حنكشتيكا يتذكر "الخيبات الجميلة


حكايات حنكشيكا الساخرة
حلقة رقم 17
القدس
سعيد الغزالي

"الخيبات الجميلة"! وهل تكون الخيباتُ جميلةً!!!
نعم كانت الخيبات السابقة جميلة، لأن الخيبات اللاحقة، وما أكثرها، وصلت إلى حد القبح الكافر، وفاقت بشاعتها حد الوصف، كأن أقول ولا أبالغ في ذلك بأنها وصلت إلى شكل خرافي من صفات ومكونات وممارسات الخنزرة والقردنة والحمرنة والقحبنة، لذلك استوجب استخدام كلمة جميلة كصفة ملازمة لتلك الخيبات السابقة.
هذا من ناحية، ومن نواح أخرى متتالية، نذكر منها أهمية الثورة التونسية التي هي موضوع بحثي واهتمامي بأول ثورة شعبية عربية أسست لعهد جديد في العالم العربي;  ولأن حنكشتيكا فلسطيني القلب والهوى، ولا أحد في الدنيا يمكنه المزاودة عليه، واعتبارا للدور الأساسي الذي لعبه الفلسطينيون على مدار تاريخهم الحديث في الثورات والهبات الشعبية، ولأن الفلسطينيين قد وصلوا إلى الحضيض، وكما وضعوا بيضهم في سلة المفاوضات، يضعون الآن بيضهم في سلال الثورات ويتوقعون نتائح إيجابية نجمت او ستنجم عنها، وتعود بالخير إلى قضيتهم. ورغم ذلك، وفهما لمسار الخيبات في هذا العالم العربي، فإن التفاؤل محظور إلى أن يرى الناس النتائج على الأرض.  
لهذه العصبة من العوامل مجتمعة ومنفردة، فقد ارتأيت التروي في تغطية أحداث الثورات الشعبية العربية، بربطها بمجريات الماضي، بالعودة خطوة أو خطوات إلى الوراء، بالتعرف على الدور الريادي لحماري أبي صابر، قبل 19 عاما، هذا الحمار الذي كدت أن أتخلى عنه، أو أضيعه مؤخرا بإرساله في مهمة إلى وادي عبقر بصحبة الخبيث أبي معروف، للكشف عن الأصول الحضارية لأمة الحمير، وكدت أن استبدله بحمار أريحا ورد، الذي لا يتمتع بخبرة حماري الأصيل الذي رافقني في مغامراتي السابقة في صحيفة النهار المقدسية، تلك المغامرات التي أعتز بها وأسجلها في خانة إنجازاتي التاريخية.
وكانت حقا إنجازات يشار لها بالبنان، وليس بالإصبع الوسطى، رغم أنني تعرضت لأصابع وسطى كثيرة موجهة إلى مؤخرتي، ولا عيب يصيبني في ذلك، ولكن العيب يلازم الذين لا يستحون من فتح "مؤخراتهم السياسية" علنا، وبلا خجل، للمشرقين والمغربين من أعراب الصحراء العربية. وللتذكير بها، أي بمغامراتي مع الحمار، يكفي أن أُشير إلى أن تلك المغامرات المنشورة في حلقات متسلسلة في الصحيفة المذكورة كانت تُرسلُ أولا بأول إلى القيادة الفلسطينية في تونس، التي أدرجت اسمي في خانة القائمة السوداء.
ولم يهمني أنني وقفت معاديا "للثوار الأنذال"، - رغم أن الثورة كانت تضم كثيرا من الثوار الأحرار، أغلبهم قضوا شهداء- بل أجني الشرف في أنني كنت من أوائل المشاركين في المعركة ضد الأنذال. وأعترف بتأثير ناجي العلي ورسوماته عليّ. ومنذ ذلك الوقت، بقيت أنا حنكشتيكا، صاحب المواهب والقدرات المهنية صحافةً وشعراً وثقافةً عربيةً وغربيةً، واقفا في مكاني في الظل أو أتحرك في دائرة محدودة متابعا اموري الأسرية، أرقب الرويبضاء وهم يقودون الساحة الفلسطينية من خيبة إلى أخرى ومن فشل لآخر، فشل في السياسة، وفشل في الإدارة، وفشل في البناء، وفشل في الإقتصاد، وفشل في الأمن، وفشل في التخطيط، وفشل في المحافظة على الأمل، رافقه فساد مستشري، واستزلام على الشعب، وانقسام غير مبرر، وافتتان بكل مؤخرة إسرائيلية، وتقديم تنازلات مجانية في القضايا الجوهرية وبلا طائل، "كرمال" عيون إسرائيل وأمريكا والأعراب العاربة والمستعربة من آل قحطان وعدنان، إلى أن أوصلوا الساحة وشعبها الفلسطيني الصامد الصابر إلى المهالك دون أن يحاسبهم أحد.
ولم يدرك هؤلاء بعد أن تحطم مركبهم، أن رياح الذل والهوان سترافقهم إلى أبد الأبدين، ولم يجنوا مما فعلوا غير خراب الديار لكنهم لا يزالون يتمسكون ببقايا هيكل مركبهم المحطم.
لقد ظن هؤلاء أنهم يخدعون حنكشتيكا وحماره، لكنني تحملت أذاهم صابرا، ورفضت أن أنخرط في اللعبة السياسية القذرة، رفضت أن أتذيل لأحد من هؤلاء القادة الرويبضاء الذين أثبتوا أنهم غير قادرين على قيادة مجموعة من الفئران، فآثرت أن أبقى بعيدا عن "خبصاتهم"، مهتما بالمحافظة على نفسي ونقاء روحي، وكسب قوتي وقوت عائلتي بشرف.
ولا شك أن لحماري دور في تعزيز روحي وتصليب مواقفي، فعانيت ما عانيت في العمل، مطرودا من صحيفة إلى أخرى، بسبب رفضي أن أتزلف لأحد، ومقدما خدماتي الإعلامية لصغار القوم وكبارهم من شبيحة الصحافة الأجنبية.
كانت أياما صعبة وحالكة في سوادها، ولم تنفرج الدنيا بعد على حنكشتيكا، رغم تقدمه بالسن، ووهن جسمه، وضعف دخله، والجلطة القلبية التي كادت أن تطيح بحياته، ولكنه لا يشكو همه لأحد، ولا يريد أن يحتمل منية أحد، ولا يقبل مالا من أحد، وكأن حاله كحال الشاعر طرفة بن العبد الذي قال في معلقته الشهيرة:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريقي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأُفردت إفراد البعير المعبد
نعم، أُفردت إفراد البعير المعبد، أفردت بصحبة حماري الذي لا أنسى فضائله في المحافظة على سلامة صحتي النفسية، كنت دائما أنظر إلى صبره واحتماله الأذى من البشر، فأرى أنني لم أصل إلى مستوى قدرته على التحمل، فأصبر، وأنظر إليه، وهو يرقب المخازي، ويمضي في طريقه، دون أن يشتط في ردة فعله، ولكنه يسخر من هذا العالم بصمت.
 ولا أنس وقفات الحمار الشجاعة فقد كان النبراس للنبالة، وكان يقول لي كلما كدت أن أتراخى أو أسقط كما سقط كثيرون من أصحابي الثوريين السابقين، وغرقوا وانجرفوا في سيلانات المفاوضات والمصالح الشخصية، كان الحمار يقول: "إياك أن تسقط، لأنك إن سقطت، لن تر وجهي أبدا".
ولما كنت أحب حماري، وأشكر له إخلاصي لي، برغم تقلباتي ونرفزاتي عليه، فقد آثرت صحبته على صحبة كثير من العلوج- على فكرة لا أقصد هنا علوج الروم، بل علوج العرب والفلسطينيين الذين هم أسوأ من علوج الروم-.
ولن أنس تلك الحادثة حين اعترض الحمار الباص الذي استقله الشبيحة الذين اطلقوا على أنفسهم المفاوضين بصحبة أنسبائهم وأقربائهم وزعرانهم، وكانوا في طريقهم إلى مطار عمان الدولي، ومنه توجهوا طيرانا إلى مدريد للمشاركة في سخافات ما يسمى مؤتمر مفاوضات السلام.  
برك الحمار أمام الباص قبل انطلاقه من أمام منزل أبو العبد، فيصل الحسيني، رحمه الله، الذي أُعزه، لإخلاصه أولا للقضية وصبره صامتا على الأذى الذي تعرض له، وللدور الجهادي الذي أداه والده الشهيد عبد القادر الحسيني، لكنه أي أبو العبد، وقع في الفخ في ذلك الوقت، ولم يأخذ عبرة بما حدث مع أبيه الذي تخلى عنه العرب في حينه ولم يرفدوه بالسلاح، فخاض المعركة، واستشهد في معركة القسطل، لقد كان أبو العبد، سامحه الله وغفر له، مرتبطا بزمرة العلوج ولم يستطع أن يفك نفسه منها.  
على أية حال، هذا ليس موضوعنا، فقد برك الحمار أمام الباص ورفض أن يتزحزح من مكانه، فاضطر أبو العبد أن ينزل من الباص ويتفاوض مع حنكشتيكا ليقوم بالتفاوض مع حماره وإقناعه بأن يتزحزح من منتصف الطريق، لتسليك سير الباص إلى المفاوضات.
وأذكر أن حنكشتيكا، احتراما لأبي العبد، ولما كان بينهما من ود قديم، فقد وافق على القيام بدور الوسيط، وبدأت المفاوضات العسيرة بيني وبين حماري المشاكس، و"تعصلجت" المفاوضات أي وصلت إلى طريق مسدود، فاضطر أبو العبد إلى التهديد بسحق الحمار تحت عجلات باص المفاوضات، فلان الحمار ونهض يجر خيبته وفشله في تعطيل المسيرة التفاوضية السلمية ومشى إلى جانب الطريق ينظر بعين الأسى إلى الباص وهو يتحرك إلى الجحيم، وهكذا، استأنف الباص طريقه إلى المطار.
كانت ذكريات جميلة. في ذلك الوقت، خرج الناس إلى الشوارع في مسيرات احتفالية، وقدموا الزهور لبعض الجنود الإسرائيليين، مستبشرين بنهاية قريبة لمعاناتهم، ظن الناس أن المفاوضين سينجحون في إقناع إسرائيل بالتخلي عن الأراضي المحتلة، وستقوم قيامة الدولة الفلسطينية، وينجح الفلسطينيون في إقامة أول دولة فلسطينية ديمقراطية في العالم العربي، ستكون الرائدة في التسامح والحرية والتقدم والرفاه الإقتصادي.
كانت تخيلاتهم أضغاث أحلام. كم كان مؤلما ومحزنا أن يسقط شعب وقيادة في مستنقع الخداع، وكم كان صعبا ومهينا للشعب والقيادة أن يخسر الناس كل هذه السنوات وهم يلهثون وراء سراب.

0 comments:

Post a Comment