Pages

Saturday, May 28, 2011

نقد لاذع موجه لـ قناة ال إم بي سي

الثالث والرابع من مقالة عائشة السيفي 
-3-
الذين يحملون رؤوسهم في سلال ويبيعونها في السوق
أنا كذلك المواطن الفلسطيني، المواطن العربي, الإنسان في كل مكان، أحمل رأسي في سلة, وأصرخ الثورة الثورة ليست للإعارة والبيع, ولكنها تباع في سوق النخاسة السياسة الدولية. وفي بلادنا يباع كل شيء, المواطن وبلده ومدينته، وقريته، وحارته، وإسرته وأصدقائه وجيرانه, كل شيء قيمه, وحضارته, وتاريخه, فلماذا لا تباع ثورته, وتضحياته, ودمائه ومعاناته. 
الإنسان العربي يباع والثورة تباع أيضا. الثورة الليبية تباع, وتفقد نقائها الثوري, وقبلها بيعت ثورة البحرين, وقمعت, وسكتت الإدارة الأمريكية على قمعها. وتباع أيضا ثورة الشعب السوري من قبل أنظمة وأحزاب تدعي الثورية, وتجري المساومة على ثورة الشعب اليمني, ودفع الأمور باتجاه حرب دموية, ويجري تحطيم الشعب الفلسطيني وإخضاعه لقيادة فارغة من أي مضمون ثوري.
ثورة تباع بالمال, وشعب يباع بالمال, وقضايا تباع بالمال, وشرف يباع بالمال. كفى يا تجار, آن للإنسان العربي أن يصيح بأعلى صوته: أنا لا أعار ولا أباع.
ما الهمني كتابة هذه السطور هو رائعة عائشة السيفي, التي اقتبست هذه العبارة من جبران خليل جبران, الذي كان يتكلم عن الحكمة, وليس هناك فرق بينهما, فالحكمة ثورة والثورة حكمة.
 ولكن السيفي وضعتها في سياق مختلف ومتشابه, مختلف بحديثها المخصص عن الاتجار بالقيم الإنسانية, ومتشابه لأن الثورة ضد الطغيان هي قيمة إنسانية. لقد وضعت السيفي فكرة البيع والشراء في إطار "العهر التلفزيوني" الذي تمارسه بعض القنوات الفضائية. ولكنه سياق متصل, بهذا الوحش العربي المستبد, ومتصل أيضا بالوحش الرأسمالي  المادي. فليسقط هذا الوحش.
ننشر ما كتبته السيفي في أربع حلقات. كتبت السيفي:
" رأيتُ الفلاسفةً في السُّوق يحملون رؤوسهم في سلال ويصرخون "الحكمة .. الحكمة للبيع!". مساكين هؤلاء الفلاسفة: يضطرُّون لبيع رؤوسهم كي يطعموا قلوبهم"
لمْ يكتب جبرَان خليل جُبران عن الذينَ يبيعُون أجسَادهم وهو يعلَم تماماً أنّ العُهرَ والبغاءَ كانَ أقدَم المهن التيْ احترفهَا البشر .. لم يكتب جُبران عن شفقتهِ على هؤلاء .. ربّما لأنّه أدركَ أنّ ثمّة فرقاً كبيراً بينَ من يبيعُ ليطعَم قلبهُ ومن يبيعُ ليطعَم جيبَه؟
لكنّه ربّما لم يعرفْ يوماً أنّه سيَأتي ذلك الزّمن الذيْ تتحوّلُ أمّته إلى سوقٍ كبيرٍ للمتاجرَة بكلّ شيءٍ .. أمّة تتَاجر بالجسد وتتَاجر بكلّ ما هوَ مقدّس حتّى لم تُبقِ أمام مشَاهدِيها ما هُوَ مقدّس .. حتّى حيَاة الانسَان نفسهَا تخلّتْ عن قدَاستها وتحوّلتْ إلى "أشياء" تُباع وتشترى.. وأنّ رَائعَة أمل دنقل: هي أشياء لا تشترى ، تحوّلت إلى وَاقع نظريّ لا يتعدّى كونهُ نصاً أدبياً لأنّ كلّ الأشياء في هذا الزّمن "الفضائي" أصبَحت تُشترى ، وتُباع! وكلّ شيءٍ قابلٌ للاستيرادِ والتصدِير!
حتّى مسَابقات اليَانصيب دخلتْ غمَارها القنَاةُ بقوّة، مقامرَةً بأحلام ملايينِ البسطَاء الذينَ يسقطُون أموَالهم في بئرٍ "لا قرارَ لهُ" سيأتي واحدٌ فقط منهُم ليحصلَ على قطعَةٍ صغيرَة من الكعكَة الكبيرَة التيْ جنَتها القنَاة وهيَ تصبِّحُ وتمسّي المشاهد بإعلانات الثلاث ملايين ريال سعُوديّ لخمسَة رابحِين ، وفيمَا تستقبلُ شركَات الاتصالاتِ العربيّة عشرَات الملايين من الرسَائل بأضعَاف مبلغ الجائزَة المرصُودة متقَاسمَةً الرّبحَ بينهَا وبينَ "آلة اليَانصيب" التيْ فتّشت وبحثت عن الرّبح حتّى من نقُود البسطَاء وَ"أحلامهم" !
صدّرتْ لنَا القنَاة الفضائيّة الكثير واستوردنَا منهَا الكثير .. في الوقتِ الذي تحوّلت فيهِ القناةُ إلى منبرٍ ترفيهيّ بامتيَاز .. وسوقٍ يصدّر الصُدور العاريَة ، والمؤخرَات العاريّة ، والقيَم العاريَة التيْ تجرّدت من كلّ شيء حتّى من الانسَانيّة نفسها .. وربّما كانَ أقصى ما صدّرتهُ القنَاة لنَا "حلمنتيشيّات" أثبتت حبّ هذهِ الأمّة "للعلعَة والثرثرَة" والتغنِي بالأمجَاد والانتصَارات والمتَاجرَة بالثورَات والبطُولات.. بالشّعر بالرّقص بالتمثيل بأيّ شيءٍ وَكلّ شيء .. المهمّ أنها تجيب "فلوس" وبسّ! أمّة أثبتت حبّها للسحرِ وخفّة اليَد وخدَاع البصر أكثَر من الفنّ الحقيقيّ .. ربّما لأنّنا شعُوبٌ عاشتْ حيَاتها وهيَ تبصرُ تمثيليّات السّاسة والضّحك على مصَائرها .. أمّة اعتَادت الخدَاع والضّحك عليها حتّى استمرأتهُ بل وَأحبّتهُ وعشقتهُ ..
قنَاة تحوّلت إلى قنَاة "محتوَى للبالغِين" لا نستطيعُ أن نضغَط الزرّ على تشغيلها وبجانبها أطفالنَا ..محتوَى للبالغين تكرّس لهُ القنَاة بكلّ اللغَات .. حتّى اعتدنَا أن نرى مشاهدَ تنَاول الكحُول التيْ لا تخلُو منها حلقةٌ واحدةٌ من جملَة المسلسلات التركيّة التيْ حوّلتِ الممثلين الأترَاك إلى أبطَال عَرب وعكسَت لنَا مستقبلنا الأسوَد المَقيت كأمّة عربيّة سبقنَا إليهِ الأتراك حينَ ساهَمت آلة كمَال أتاتُورك في تسطيح الأمّة التركيّة العظيمة وتحويلها إلى أمّة "شرّيبَة" .. متفككة قدّمت لنا مسلسلاتهم فكرَة واسعَة عن التخبّط الذي يعيشونه .. وكسَرتْ كلّ محرّم حتّى زنَا المحَارم .. قنَاة بدأت في تصدِير محتويَات للبالغين في نسخَة درَاميّة عربيّة من المسلسلات التركيّة تعكسُ حيَاة فتياتٍ وعوَائل في دبيّ أشعرتنا أنّ ثقافة "البوي فريند" و"الجيرل فريند" هي جزءٌ من ثقافة المجتمع العربيّ وأنّ التسكّع في البارات حتّى الصبَاح البَاكر ومشاهد تناول الكحول هيَ واقعٌ حقيقيّ عربيّ على المُشاهِد تقبّله ..
 قنَاة تدرّجت في جلبِ المحتويات الترفيهيّة بنسخَها الأجنبيّة والعربيّة وكَانَ آخر ما ينقصنا  أن تعلّمنا "كيف نغنّي" ونرقُص .. في الزّمن الذي رقصَتِ الحكُومات المستبدّة على أجسَادنَا نحنُ الشّعوب العربيّة ولمَ نلُومهم؟ وشعُوبهم انشغلتْ بالرّقصِ في الفضائيّات والغنَاء والفرفشَة .. بينمَا حكّامنا يفرفشُون ويرفّهون عن أنفسهم لدَى شعُوبٍ فقدَت قيمَة الحيَاة المعنويّة ، وأجيَالٍ تسطّحتْ ، وأروَاحٍ جَمُدتْ وسطَ تيّار التسطيح والتفريغ الرُوحي الذيْ تتنافسُ عليهِ الفضائيّات .. تفريغ روحيّ وسط تعبئة جنسيّة في موَادّ شاشاتِ البثّ ومشاهدَ فاضحَة اخترقتْ أقصى القدسيّات وأنبلَ القيَم.
-4-

رأيتُ الفلاسفةً في السُّوق يحملون رؤوسهم في سلال ويصرخون "الحكمة .. الحكمة للبيع!""ليتَ جُبرَان خليل جُبرَان عاشَ حتّى هذا اليَوم .. ربّما رسمَ صوتهُ نوراً رفيعاً يضيءُ أجيَالنا الضّالة وسطَ ظلام الهبُوط وتدهُور القيم .. ليتهُ عاشَ ليعلّم الناسَ كيفَ يصنعُون فلاسفة ً يبيعُون الحكمَة .. ليتهُ عاشَ ليقنعَ أثرياءنا وملاّك قنواتنا العربيّة باستثمَارٍ عظيمٍ هوَ استثمَار العقل ليتهُ عاشَ ليقولَ لهُم ماذا لو موّلتم برَامج للاختراعاتِ العلميّة ، برَامج لتموِيل العبَاقرَة الصّغار ، ماذا لو قدّمتم برَامج وَاقع لحيَاة علمَاء هذهِ الأمّة المتوارين خلفَ ضوضاءِ التسطيح والتفريغ الذي يُمارَس ببالغ الاحترافيّة؟
ليتهُ عاشَ ليقولَ لهُم: كمْ هيَ الحكمَة استثمَارٌ ضخمٌ حينَ نتَاجرُ بها ، حينَ نستثمر فيهَا ملاييننا ، حينَ نقنعُ شعوبنَا الهائمَة على وجهها بأهميّتها .. بأهميّة العلم والعقل ، بأهميّة الإيمَانِ بأهميّتهِ ..
هلْ عرفَ جبرَان خليل جُبران كيفَ ستغرقُ أمّته في عَالم عشوَائيّ يصبحُ كلّ شيءٍ فيهِ قابلاً للمتَاجرة وتصبحُ كلّ الأشياء عُرضةً للبيع مقابلَ ورقَة شيكٍ بنكيّ؟ .. هل عرفَ جبرَان مستقبلَ أمّتهِ وهوَ يكتبُ هذهِ العبَارة؟ ربّما .. لكنّ شاعراً آخر اسمهُ المتنبّئ سبقهُ بقرونٍ قرأ تماماً واقعَ أمتهِ وتنبأ بمستقبلها حينَ قالَ: يا أمّة ً ضحكتْ من جهلها

0 comments:

Post a Comment