Pages

Thursday, May 26, 2011

الذين يحملون رؤوسهم في سلال ويبيعونها في السوق



-2-
أنا كذلك المواطن الفلسطيني، المواطن العربي, الإنسان في كل مكان، أحمل رأسي في سلة, وأصرخ الثورة الثورة ليست للإعارة والبيع, ولكنها تباع في سوق النخاسة السياسة الدولية. وفي بلادنا يباع كل شيء, المواطن وبلده ومدينته، وقريته، وحارته، وإسرته وأصدقائه وجيرانه, كل شيء قيمه, وحضارته, وتاريخه, فلماذا لا تباع ثورته, وتضحياته, ودمائه ومعاناته. 
الإنسان العربي يباع والثورة تباع أيضا. الثورة الليبية تباع, وتفقد نقائها الثوري, وقبلها بيعت ثورة البحرين, وقمعت, وسكتت الإدارة الأمريكية على قمعها. وتباع أيضا ثورة الشعب السوري من قبل أنظمة وأحزاب تدعي الثورية, وتجري المساومة على ثورة الشعب اليمني, ودفع الأمور باتجاه حرب دموية, ويجري تحطيم الشعب الفلسطيني وإخضاعه لقيادة فارغة من أي مضمون ثوري.
ثورة تباع بالمال, وشعب يباع بالمال, وقضايا تباع بالمال, وشرف يباع بالمال. كفى يا تجار, آن للإنسان العربي أن يصيح بأعلى صوته: أنا لا أعار ولا أباع.
ما الهمني كتابة هذه السطور هو رائعة عائشة السيفي, التي اقتبست هذه العبارة من جبران خليل جبران, الذي كان يتكلم عن الحكمة, وليس هناك فرق بينهما, فالحكمة ثورة والثورة حكمة.
 ولكن السيفي وضعتها في سياق مختلف ومتشابه, مختلف بحديثها المخصص عن الاتجار بالقيم الإنسانية, ومتشابه لأن الثورة ضد الطغيان هي قيمة إنسانية. لقد وضعت السيفي فكرة البيع والشراء في إطار "العهر التلفزيوني" الذي تمارسه بعض القنوات الفضائية. ولكنه سياق متصل, بهذا الوحش العربي المستبد, ومتصل أيضا بالوحش الرأسمالي  المادي. فليسقط هذا الوحش.
ننشر ما كتبته السيفي في أربع حلقات. كتبت السيفي:
" رأيتُ الفلاسفةً في السُّوق يحملون رؤوسهم في سلال ويصرخون
 "الحكمة .. الحكمة 
للبيع!". مساكين هؤلاء الفلاسفة: يضطرُّون لبيع رؤوسهم كي
 يطعموا قلوبهم"
قبلَ ما يزيدُ عن ثمَانينَ عاماً كتبَ جُبران خليل جُبران هذهِ العبَارة
 ولم يعرف يوماً أنّ
 أمّتهُ ستحوّل كلّ شيءٍ للبيع .. وأنّ أقلّ المصَائب و"أنفعها للأمم" 
هي بيعُ الحكمَة التيْ
 ستصبحُ حدثاً هامشياً حينَ يصبحُ كلّ شيءٍ للبيع .
كانَ خيراً لجبرَان خليل ألا يعيشَ اليَوم الذي يرَى النَاس يتهَافتُون لعرضِ أسرار حيَاتهم
 أمام الملايين .. مقَامرين بآبائهم وأمهاتهم وزوجَاتهم ومن يحبّونَ
 من أجل مبلغٍ لا يتعدّى
 الخمسين ألف ريَال عُمانيّ (130ألف دُولار أمريكي) .. في حَالِ 
أتمّ إجابَة كلّ الأسئلة
 بصدق والتيْ قد يخسرها جميعاً في حال أخطأ الإجابة مقامراً بكلّ
 تفاصيل حيَاته بلا مُقابل.
لم نتوقع ونحنُ نتابع النسخة الأميركيّة أن نرى المواطنَ العربيّ
 يوماً يجلسُ على ذاتِ
 الكرسيّ لينشرَ تفاصيل حيَاتهِ على الملأ وليعرّي نفسهُ وأصدقاءهُ
 وعائلتهُ وعمَلهُ 
ومَاضيه مقَابل مبلَغ صغيرٍ جدَاً يتَساءل فيهِ المشاهدُ هلْ خصُوصيّة 
حيَاتي وقدسيّتها
 تعَادلُ هذا السّعر؟ استطَاعت قنَاة الأم بي سي أن تجيبَ على هذا
 السؤال بتقديمها
 شرائح مختلفة من دول عربيّة مختلفة وبأعمَارٍ سنيّة مختلفَة كذلك
 .. أنَاسٌ أتَوا بطوعهم
 طلباً للمَال ليضعُوا حيَاتهم بكلّ تفاصيلها وحيَاة من يحبّونَ
 ويكرهُون على العَلن أمام 
الملايين! وإنْ كانت تلك التفاصيلُ تأتي تباعاً وهمْ على كرسيّ
 "الحقيقَة" فإنّ الأم بي
 سي دخلتْ بالموَاطن إلى غُرَف النّوم بتقديمها برَامج وَاقع لثنَائيّ
 متزوّج ومن أين؟ 
نموذج زوجَين من الخَليج لم تشفَع محَافظَة مجتمعيهمَا لتدخلَ
 كاميرَا التصوير حتّى إلى
 غرفَة نومهِم .. ولتتحوّل يوميّاتهم إلى مشَاهد تلفزيُونيّة مليئة بالقبَل
 والأحضَان .. حتّى
 خصوصيّات المرأة كسَرت حَاجز الحيَاء حينَ كانتِ الزوجَة تجري
 اتصالاً بأمّها 
لتسألها متَى موعِد دورتِها الشهريّة؟ ولتخبرهَا أمّها بموعِدهَا بينمَا
 الملايين يستمعُون
 لمحَادثَة "المدَام" كاملةً وبجانبهَا زوجها ثمّ يعرفُ الملايين لاحقاً 
أنّ "المدام" حامل في
 شهرها الأوّل.. وسلّمْ ليْ على المدَام و"زوج" المدَام!!
لمْ نتوقّع يوماً أن نرى بأعيننا تفاصيل مشاهدَ وبرامج كهذهِ .. تتَاجرُ بكلّ شيءٍ .. بالمشاكل والخلافات ، بالمتاعِب المَاديّة ، بالفرَاغ والتفكّك الأسريّ تتاجرُ حتّى بخصوصيّة الحياة الزوجيّة التيْ تحوّلت إلى برنَامج واقعٍ تدعُو القنَاة مشاهديها بعدَ نجاحِ النسخَة الأولى إلى الاشتراك في النسخَة الثانيَة ولا عجبَ أن تجدَ طوَابير طويلَة للاشترَاك ما دامُوا سيستلمُون في نهَاية المطَاف شيكاً موقّعاً من القنَاة.

0 comments:

Post a Comment