Pages

Wednesday, May 25, 2011

الذين يحملون رؤوسهم في سلال ويبيعونها في السوق


الذين يحملون رؤوسهم في سلال ويبيعونها في السوق
أنا كذلك المواطن الفلسطيني، المواطن العربي, الإنسان في كل مكان، أحمل رأسي في سلة, وأصرخ الثورة الثورة ليست للإعارة والبيع, ولكنها تباع في سوق النخاسة السياسة الدولية. وفي بلادنا يباع كل شيء, المواطن وبلده ومدينته، وقريته، وحارته، وإسرته وأصدقائه وجيرانه, كل شيء قيمه, وحضارته, وتاريخه, فلماذا لا تباع ثورته, وتضحياته, ودمائه ومعاناته.  
الإنسان العربي يباع والثورة تباع أيضا. الثورة الليبية تباع, وتفقد نقائها الثوري, وقبلها بيعت ثورة البحرين, وقمعت, وسكتت الإدارة الأمريكية على قمعها. وتباع أيضا ثورة الشعب السوري من قبل أنظمة وأحزاب تدعي الثورية, وتجري المساومة على ثورة الشعب اليمني, ودفع الأمور باتجاه حرب دموية, ويجري تحطيم الشعب الفلسطيني وإخضاعه لقيادة فارغة من أي مضمون ثوري.
ثورة تباع بالمال, وشعب يباع بالمال, وقضايا تباع بالمال, وشرف يباع بالمال. كفى يا تجار, آن للإنسان العربي أن يصيح بأعلى صوته: أنا لا أعار ولا أباع.
ما الهمني كتابة هذه السطور هو رائعة عائشة السيفي, التي اقتبست هذه العبارة من جبران خليل جبران, الذي كان يتكلم عن الحكمة, وليس هناك فرق بينهما, فالحكمة ثورة والثورة حكمة.
 ولكن السيفي وضعتها في سياق مختلف ومتشابه, مختلف بحديثها المخصص عن الاتجار بالقيم الإنسانية, ومتشابه لأن الثورة ضد الطغيان هي قيمة إنسانية. لقد وضعت السيفي فكرة البيع والشراء في إطار "العهر التلفزيوني" الذي تمارسه بعض القنوات الفضائية. ولكنه سياق متصل, بهذا الوحش العربي المستبد, ومتصل أيضا بالوحش الرأسمالي  المادي. فليسقط هذا الوحش.
ننشر ما كتبته السيفي في أربع حلقات. كتبت السيفي:
-1-
" رأيتُ الفلاسفةً في السُّوق يحملون رؤوسهم في سلال ويصرخون "الحكمة .. الحكمة للبيع!". مساكين هؤلاء الفلاسفة: يضطرُّون لبيع رؤوسهم كي يطعموا قلوبهم"
قبلَ 85 عَاماً صدّرَ جُبرَان خليل جُبرَان كتَابَه "رملٌ وزَبد" بمقدّمةٍ جميلَةٍ جَاءتِ العبارَة السابقَة ضمنَها .. كتَب جُبران خليل جُبرَان هذهِ العبَارة وهوَ يشعرُ بالأسَى والشفقَة على الفلاسَفة الذينَ حملُوا أفكَارهم ورؤاهم للعَالم ليستثمرُوها .. ولو أنّ جبرَان عَاد إلى الحيَاة وأبصَر الأشياء التيْ أصبحت قابلة ً للبيع .. لعَاد إلى كتابهِ وحذف جملتهُ تلك ثمّ عادَ إلى قبرهِ.
هلْ كانَ جُبران خليل جُبران يعرفُ أنّه سيَأتي اليوم الذي نقرأُ لهُ كتَابه في زمنٍ أصبَح كلّ شيءٍ فيهِ للبيع .. في هذا الزّمن الذيْ تسَاقطت فيهِ القيمُ تبَاعاً أمامَ هذا الطُوفان الماديّ الذي يعصفُ بنَا .. زمنٍ فقدَ النَاسُ حيَاءَهم أو ربّما نسَوهُ جَانباً أمَام الإغراءات المَاديّة التيْ أصبحتْ تتَاجرُ بكلّ شيءٍ .. حتّى بأكثر القيم قدَاسَة .. الانسَانيّة!
وفيْ نفسِ العَام الذي أصدَر فيهِ جبرَان كتَابه ذلك كانَ جُون بيرد يحتفلُ بإرسال أوّل صُورةٍ حيّةٍ عبر الهوَاء مهّدت لظهُور ثورَة الشَاشة والتلفزيُون .. فهل أدركَ خليل جُبران يومَها أنّ ذلك التلفزيون سينسِفُ كلّ القيم والجمَاليّات المقّدسة التيْ تغنّى بها جُبران في كتبهِ ، وأنّها ستتحوّل جميعاً إلى أشياء رخيصَة قابلَة للبيع؟
حينَ ظهرتْ قنَاة أم بي سي كانَ وقعُ انطلاقها كبيراً إذ كانت منذ البدَاية تنهجُ نهجاً مختلفاً نحوَ جذبِ شريحَةٍ أكبر من مشاهدي الوَطن العربيّ في الوقتِ الذي كانت قنواتٌ عربيةٌ أخرى تتسيّد المشهد الفضائيّ العربيّ وخلال أعوَامٍ استطَاعت القنَاة أنْ تحتلّ الرقم واحد في الفضائيّات الأكثر مشَاهدَة لتقومَ بشكلٍ تدريجيّ بتصدِيرِ باقة ٍ من القنوَات تحتَ مظلّة القنَاة الأمّ كانَ أكثرها جاذبيّة ً انطلاق قنَاة أم بي سي 4 المعنيّة بعرض المسلسلات والبرَامج الأجنبيّة .. وعن طريقِ تلك القنَاة وجدَ المشاهدُ طريقهُ ليعرفَ أكثر ما يحدثُ في العَالم الواقع على جهةٍ أخرَى من الأرض استطاعتِ القنَاة ُ اختصَار الأميَال فعرفنَا أوبرَا وينفري الإعلاميّة الأثرى عالمياً وعشنَا معهَا برنامجها لحظة ً بلحظة وعرفنا الدكتُور فيل ومشاكل المجتمع الأميركيّ المعاصر التيْ كانَ يعرضها واقتربنَا من مشاكل العالَم الصحيّة التيْ كانَ الأطباء الأربعَة يتشَاركُون الحديثَ عنها .. استطَاعتِ القنَاةُ أن تنقلَ لنا الكثيرَ من ثقَافة الآخر الذيْ جهلنَاهُ لأمدٍ طويل وساهمتْ شاشاتُ تلك القنَاة في تقريبهَا إلى عينِ المشاهدِ العربيّ.
وبدأتِ القنَاةُ في تصدِير برَامج الشاشاتِ الأميركيّة إلى المشاهد العربيّ كأميركَان جُوت تالنت وذي مُومنت أوف ترُوث الذيْ كانَ المشاهدُ يتابعهُ ويتسَاءل إنْ كانتِ الماديّات سيطرتْ على الفردِ الأميركيّ إلى هذا الحدّ من الهوَس ليتَاجر بكلّ خصوصيّاته ويفقد أقرب الناسِ إليهِ مقَابل حفنَة من الدُولارات .. برَامج الوَاقع سيطرتْ كذلكَ على شَاشَة أم بي سي لرَاقصينَ يركضُونَ لتلبيَة رغبَات مغنٍ متسلّط ومتعجرف ومدرَاء أعمَال يكيدُون لبعضهم من أجلِ رضَا "البيج بُوس" .. وزوجَات فارغَات في الحيَاة يبعنَ تفاصيل حيَاتهنّ الفارهَة لكَاميرات التصوير.
برَامج كثيرَة عكسَتْ مقدَار الماديّة التيْ غرقَ فيها المجتمَع الأميركيّ للحدّ الذي يدفعُ المشاهِد للتساؤل إنْ كانَ هذا عَالمَاً خلقتهُ الشاشاتُ فقط أم أنّه عَالمٌ واقعيٌ يحدثُ في بقعةٍ ما من العَالم اسمها الولايات المتّحدة .
غيرَ أنّ أياً منّا لم يتوقّع أنّ هوَس القنَاة بجذبِ مزيدٍ من المشاهدِين والإعلانات ورؤوس الأموال والأرباح سيحوّل الفردَ العربيّ نفسهُ إلى جزءٍ من منظُومة الماديّة التيْ كنّا نظنّها واقعاً في العَالم الغربيّ ولم نتوقّع يوماً أنّ القناة ستدخلُ سوقَ المتَاجرَة بكلّ شيءٍ  حتّى أسرَار النّاس وحيَاتهم.

0 comments:

Post a Comment