Pages

Tuesday, June 21, 2011

انتخبوا مواطن المستقبل عارف دليلة رئيسا لسورية


  
سعيد الغزالي- القدس المحتلة

أنا لا أقوم بحملة انتخابية, ولا أقصد  معنى حرفيا للكلمة, بل أعبر عن شعوري تجاه هذا الرجل, فلو كنت سوريا, ولو كان الدكتور عارف دليلة مرشحا لرئاسة سورية لانتخبته رئيسا, إن رجلا عملاقا في حجم معرفتة, وإخلاصه وتضحياته, وجرأته, هو نموذج رائع للمثقف الملتزم, للمواطن العربي, أقول ذلك, لأنه يستحق أن ينال مرتبته كمواطن عربي, مواطن المعرفة والشجاعة, مواطن المستقبل, وليس فقط كمواطن سوري, عارف دليلة هو فلسطيني وعراقي ومصري وسعودي ويمني ومغربي معا... هو مواطن مخلص لبلده سورية, استاذ الاقتصاد السياسي وأحد مؤسسي المجتمع المدني في سورية.

أحب أن اسميه مواطن المستقبل العربي, اعتقل عام 2001 وحكم عليه عشر سنوات لـ إلقائه محاضرة  عن الاقتصاد السوري, وصرف من الخدمة, وشردت عائلته. هو كوكب سوري يشع نوره الوطني على جميع السوريين بكل طوائفهم. علوي النشأة, لكنه سوري عربي يستحق أن يكون الرئيس المؤقت لسورية, بعد إسقاط التافة بشار الأسد, ونظامه الذي شفط دماء سورية, ودمر اقتصادها, وامتهن كرامة شعبها وحريته.


وهذه نبذة عن حياته

 تخرج الدكتور دليلة من كلية التجارة - جامعة دمشق ثم حصل على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة موسكو (لومانوسوف) عام 1972. عمل دليلة مدرساً في جامعة حلب من عام 1972 حتى 1981 ثم مستشارًا اقتصاديًا في الكويت بين 1981-1986، ثم أستاذًا للاقتصاد في جامعة دمشق من عام 1986 حتى صرف من الخدمة في 28/03/1998 على خلفية بحوثه ومحاضراته وكتبه ومقالاته الاقتصادية والسياسية. وقد ركزت أعماله عموماً وعلى مدى ثلاثين عامًا في موضوعات الاقتصاد الدولي والعربي مع التركيز على مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية وبالأخص, على الإدارة الاقتصادية الوطنية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد والكشف عن الفساد ومكافحته، وجاء صرفه من الخدمة عام 1998 بعد محاضرة ألقاها في مقر اتحاد الكتاب العرب بدمشق بناء على دعوة رسمية من الاتحاد وكان عنوانها "التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية"، طالب فيها دليلة بتفعيل حقوق المواطن المنصوص عليها في الدستور المعتمد رسميًا منذ عام 1973. اعتقل في 9/9/2001 بعد أسبوع على إلقائه محاضرة في منتدى الأتاسي بدمشق تحت عنوان "الاقتصاد السوري: مشكلات وحلول".

أتى الإفراج عنه بعد حملة شنتها 26 منظمة حقوقية سورية وعربية ودولية في يوليو (تموز) 2008 طالبت فيها الحكومة بالإفراج عن دليلة بسبب تردي وضعه الصحي. وقد علق دليلة عقب الإفراج عنه بأن مواقفه ورؤاه لم تتغير وبأنه سيستمر في التعبير عنها. وأضاف بأن إطلاق سراحه لم يكن مشروطاً بسكوته. وقال دليلة لوكالة "رويترز" بعد إطلاق سراحه إن "تمضية كل هذا الوقت في السجن من غير أن أرتكب أي جريمة يفوق تصوري. أوضاعي الصحية كانت في تدهور، وأخيراً أطلقوني. كل ما أستطيع قوله الآن، الحمد لله". ونقلت عنه وكالة "الأسوشيتد برس": "عدت إلى الحياة مجدداً.. صحتي جيدة.. ولكن.. أحتاج إلى عناية". وأضاف: "سأعود للقيام بدوري كمواطن معني بالشؤون العامة لبلادنا".


وهو في هذه المقالة المؤثرة, يتذكر وفاة والدته وهو في السجن،, ويجيب الطغاة العرب, ويقول لهم:

إجابة واحدة على كل عروضهم بالتنازلات "لقد تأخرتم كثيرا "


وهذه واحدة من ألاف القصص المشابهة: بعد اعتقالي، وقعت والدتي في حالة عجز كامل عن الحركة مع بقاء نظرها وسمعها ووعيها كاملين لكن صوتها اخذ في الاختفاء تدريجيا. كانت تسأل: اين عارف؟ لقد وعدني ان ياتي.
كانوا يجيبون: انه مسافر! ولكنهم اضطروا بعد ستة اشهر على الاعتراف اني في السجن ( وكل الناس تعرف ان (جريمتي) الوحيدة عند من يدعون انهم يكافحون الفساد انني كنت ضد الفساد ولم تنفع كل وسائل الترغيب والترهيب الهائلة في (ردعي) عن ارتكاب هذه "الجريمة النكراء " ) وقد قاومت وهي على هذه الوضعية حوالي ثلاث سنوات وهم يتنصتون عند كل زيارة على اسئلتي واجوبة الزائرين عن وضعها الصحي آملين ان يؤدي ذلك الى انحطاط قواي والانضمام الى عبادة الفاسدين (من بين الكثيرين من العابدين) وذات صباح جاؤوني بالجريدة اليومية التي كنت اشتريها وكالعادة قلبت صفحاتها بسرعة فوجدت نعوة والدتي. اغلقت الجريدة وقمت اتمشى في زنزانتي الانفرادية واتفكر في دوافع ارباب الانحطاط الاخلاقي للاقتناع بهكذا ممارسات وحشية ضد الانسان فلم اجد الا هيمنة النوازع الحيوانية. وبعد دقيقة واذ باحد (العناصر) يفتح النافذة بسرعة فيراني اتمشى والجريدة على السرير فيطلب مني ان اعيره اياها لان الضابط يريد الاطلاع عليها وسيعيدها بسرعة.

عرفت انهم رأوا النعوة وارادوا اخفاءها قبل ان اراها. اعطيته الجريدة متظاهرا اني لم افتحها. يومان طويلان جدا مرا وانا افكر في تقديم طلب للسماح لي بالمشاركة في دفن والدتي ثم يعيدوني الى السجن . كتبت الطلب اكثر من مرة لامزقه بعدها لاني واثق انهم لن يفعلوها (مع مجرم بهذه الخطورة التي تقدر بحجم ارقام فسادهم الهائلة !) وبعد ايام زارتني اختي طبيبة الاطفال سلمى التي كانت تعمل في السعودية منذ ثلاث سنوات لابسة السواد فتظاهرت امام (العناصر) باني لا اعرف شيئا سألت اختي عن والدتي فاخبرتني انها لم تعد تحتمل المقاومة والانتظار اكثر (اختي سلمى ايضا قضت مع زوجها نور الدين بدران في حادث مروع وهي عائدة في الصيف بعد سنتين ولم يخبرني احد بذلك حتى بعد يومين من خروجي من السجن خوفا على صحتي التي كانت تسوء بسرعة!) بعدها بفترة سمعت من مونت كارلو ان والدة الصديق ميشيل كيلو (وكان قد زج به في السجن بنفس الجرائم التي اسميتها "اللصاقة " المستلة من قانون عقوبات حسني الزعيم، مرتكب جريمة اول انقلاب عسكري عام 1949 المتهم بعثيا بانه (عميل المخابرات الامبريالية -الصهيونية ) وهو القانون الاكثر احتراما عند متهميه في الممارسة على مدى حوالي نصف قرن ؟!) قد توفيت وانه طلب من داخل السجن السماح له بالمشاركة بدفنها والعودة في نفس اليوم (وقد اخبرني لاحقا ان الاهل في الخارج هم الذين طلبوا ذلك) ورفضوا الطلب فحمدت الله على انني مزقت الطلب ولم اتقدم به اليهم.
والبلية الاكبر ان اسمع وانا منعزل في زنزانتي الفردية من اذاعة النور (اذاعة حزب الله ) في نفس الفترة حوارا مع احدي النساء الفلسطينيات المجاهدات في الضفة الغربية وقد روت ان الشهيد الدكتور الزهار ( نائب الشهيد الشيخ احمد ياسين مؤسس حماس في غزة رحمهما الله كان اسيرا عام 1981 في سجون الاحتلال الاسرائيلي عندما توفيت والدته فاخرجه الاسرائيليون لتشييعها قبل ان يعرف ويطلب ذلك ؟!
(بالطبع ليس من عظمة اخلاقهم الانسانية وهم الذين يرتكبون من الجرائم على مدى قرن كامل ما حمل الامم المتحدة عل وصم الصهيونية بالعنصرية في قرار شهير اواسط السبعينيات ولم يلغ الا بعد تخاذل الحكام العرب وتواطؤهم مع الصهيونية ضد شعوبهم )
كان القرار الاسرائيلي نوعا من "السياسة" لاغير في التعامل مع من يعمل على ازالة اسرائيل من الوجود ، وبالسياسة - اضافة الى الوحشية والدعم الامبريالي الاعمى-مازالت اسرائيل تدعم وجودها وتتوسع في القتل واغتصاب الحقوق على مدى حوالي قرن كامل.
ترى اليس غياب الوعي السياسي لدى الحكام العرب هو ماجعلهم يصطدمون اليوم ليس فقط باحتقار العالم لهم بل ايضا باحتقار شعوبهم بعد نصف قرن من احتكار السلطة والامعان في الاستبداد والفساد حتى اختفت جميع الشعارات من الحياة العربية لصالح شعار واحد هو "الشعب يريد اسقاط النظام" ولتحل محل كل عبارات الاطناب التي استمرأوها على مدى نصف قرن كلمة واحدة لاتقبل التأويل " ارحلوا " واجابة واحدة على كل عروضهم بالتنازلات"لقد تأخرتم كثيرا " ؟!
العقل والضمير هما (فقط لاغير! ) ما ينقص الحكام ( العرب ) !!!!! فهل آن الاوان لحكام عرب ذوي عقل وضمير؟
هذا سؤال كبير برسم الثورة العربية العظمى المندلعة حاليا على الارض العربية من المحيط الى الخليج.

أما المحاضرة التي ادين بإلقائها وحكم عليه عشر سنوات أمضى نحو ثمانية, فهي بعنوان : الاقتصاد السوري: مشاكل وحلول. وهذا نصها
إ
     
ما زلنا نعيش في نظام تؤخَذ فيه الناس بجريرة أقوالها، وما زال النظام حتى الآن لا يأخذ الناس بجريرة أفعالهم. أصبح القول جريمة، أما الفعل مهما بلغ من الخطر على البلاد والعباد، فلا يُعتبر جريمة يُحاسب عليها. آن الآن أن نعترف بحرية الرأي والكلمة والقول، وأن نحاسب الناس على أعمالهم ونتائج أفعالهم التي يتحمّل الوطن والشعب والحاضر والمستقبل أعباءها.
من المستحيل في محاضرة أن نحيط بمشكلات الاقتصاد السوري ونرسم وصفات الخروج منها، فهذه المشكلة كانت موضع نقاش دائم في ندوات الثلاثاء الاقتصادية على مدى الـ 15 عاماً الماضية، شارك فيها العديد من الاقتصاديين السوريين والمختصين من مختلف الاتجاهات. وكان الفضل لهذه الندوات في الكشف عن القضايا الخطيرة التي تعتمل في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي، والتي قوبلت في معظم الأحيان بالإعراض أو الاستنكار أو الاتهام، ولكن حظيت في النهاية بالاعتراف، وأدت إلى بعض التغييرات. لكن هذه التغييرات بقيت تغييرات فوقية اسمية شكلية، لم تصل إلى جوهر القضية، إلى تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية الجاري تخطيطها وتنفيذها على الأرض، وفي رقبة الاقتصاد السوري، وفي رقاب أبناء هذا الوطن.
وهناك الكثير من الأسئلة التي أصبح من الضروري طرحها والإجابة عليها. يجب أن نسجّل الإيجابيات في السنة الأخيرة أن جميع الجهات الرسمية أصبحت تتابع المسألة الاقتصادية، شُكِّلت اللجان العديدة من مختلف المواقف والآراء، وقُدِّمَت الدراسات، نُشِرت الكثير من هذه الآراء في وسائل الإعلام، لكن هذه الإيجابية ما تزال على الورق، لم تتحوّل بعد إلى فعل إصلاحي حقيقي. إذاً هنالك دائرة مسدودة وما زلنا نخضّ الماء ولا نحصد زبدة، وما زال الحديث يدور في الفراغ. تُشكَّل اللجان تلو اللجان، تُقدَّم الاقتراحات، لكن المبادرة والقرار والفعل ما زال في واد آخر.
كلنا نعلم قوة الهجمة الوحشية التي نتعرض لها ونواجهها على أرض فلسطين وفي الوطن العربي عموماً. فنحن نعيش عصر الإمبريالية، وتحوّلها إلى إمبراطورية عالمية، وليس لنا مكان في هذه الإمبراطورية إلا أن نكون غذاءً في أحشائها: أرضاً وموارد طبيعية وأموالاً وبشراً، وهذا يتطلب يقظة مضاعفة. حجم الهجمة التي يتعرّض لها الوطن العربي أضعاف ما يتعرّض له أي مكان في العالم. هنا أُضيفت الصهيونية إلى الإمبريالية، الصهيونية التي لا تقبع في ما سُمي بدولة إسرائيل عام 48، وإنما الصهيونية التي أصبح لها امتدادات على مساحة الوطن العربي حيث شُلَّت ألسنة وأيدي الدول والأنظمة العربية حتى في قول كلمة في وجه أمريكا راعية إسرائيل.
الأخطر هو الاقتصاد. يمكن أن نزاود إلى الأبد بالشعارات والمواقف الثورية، ولكن من المؤسف أن لا نكتشف أنه تحت هذا الغطاء من الشعارات الثورية هنالك من يفعل فعلاً مضاداً على الأرض، ومن يفرّغ إمكانيات هذه الأمة ويمتصّ الدماء من عروق مواطنيها، ومع ذلك فهناك من يغطيه بالشعارات والخطابات والمقالات وكأن شيئاً لم يكن، فكيف يمكن لهذين النقيضين أن يجتمعا في وقت واحد، في سلطة واحدة، في دولة واحدة، في حزب واحد، وفي أجهزة واحدة؟ كيف يمكن أن يستمر القول نقيض الفعل، والفعل نقيض القول؟ لقد دفعت سورية، دولة وشعباً، ثمناً غالياً لهذا التناقض. على مدى العقود الماضية عشنا في ظل نظام ذي وجهين، كعملة لا افتراق بين وجهيها: وجه عسكري أمني سياسي يرفع الشعارات القومية الثورية الوطنية الاشتراكية، ووجه اقتصادي اجتماعي يقطّع أوصال الدولة والشعب والمواطن. للغرابة كانت العلاقة بين هذين الوجهين علاقة تحالف ودعم متبادل لدرجة انه كان من الصعب في كثير من الأحيان أن تحكم أي من الوجهين هو الذي يحكم الآخر. كانا يتبادلان المواقع، يحتل هذا الوجه أحياناً مكان الشكل والآخر مكان المضمون، ولكن عندما يختلّ التوازن بينهما كانت تتهدد البلاد أزمة وانفجار، فيسارعان معاً إلى إعادة التوازن وإلى إعادة اقتسام الأدوار والمواقع ليعود التوازن من جديد. آن لسورية أن تخرج من هذه الازدواجية المكلفة وطنياً وقومياً وإنسانياً وأخلاقياً لتظهر بوجه واحد، القول فيها هو الفعل والفعل فيها هو القول.
من متابعتنا للوقائع الاقتصادية والسياسات الجارية لا بدّ أن نتساءل: هل هناك إدارة اقتصادية عامة في سورية؟ رسمياً هناك إدارة اقتصادية عامة فهنالك حكومة ووزارات وغيرها، فعلياً هل هذه الحكومة والوزارات تؤدي وظيفة عامة في مواقعها العامة أم تؤدي وظائف خاصة؟ على مدى خمسة عشر عاماً ونحن نبرهن أن هذه الإدارة الاقتصادية تؤدي وظائف خاصة في مواقعها العامة. بالتالي نتساءل: هل نستطيع الحديث في سورية عن اقتصاد وطني؟ في دول أوروبا وأمريكا وأي دولة في العالم ورغم أنها اقتصادات رأسمالية وطبقية، لكن عندما يزدهر الاقتصاد يرتفع مستوى الجميع: الرأسماليون والعمال والعاطلون حتى عن العمل، وعندما يصاب الاقتصاد بالركود يخسر الجميع: أصحاب المليارات والعاملون برواتبهم وأجورهم والعاطلون عن العمل، لذلك نقول هناك اقتصاد وطني في أمريكا وفي اليابان مثلاً. لكن هل نستطيع القول هناك اقتصاد وطني في سورية؟
هنالك اقتصادان: اقتصاد لا يعرف الأزمة والركود، في ازدهار دائم، في وفرة دائمة، بل في حالات الأزمة والركود يزداد اكتنازاً، وهو اقتصاد القلة، أعضاء الشركة المشتركة، من هم في السلطة وشركاؤهم خارج السلطة، وهنالك اقتصاد القلة الساحقة، وهؤلاء إذا ازدهر الاقتصاد أم مال إلى الركود، خسرت البلاد أم فقرت هم في حالة فقر متزايد، أوضاعهم لا علاقة لها بالوضع الاقتصادي العام، وإنما تتحدد أوضاعهم بسياسات رسمية تُطبّق على مدى عقود بشكل منتظم ومحكم، في الوقت الذي تراجعت فيه الدولة عمّا يسمّى بالتخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، التخطيط الذي يضع مؤشرات على الدولة والسلطة بكل مستوياتها. لكن نلاحظ أن خطة بديلة غير معلنة تُطبق بإحكام وبتناسق شديد، هذه الخطة تقضي بتحطيم مقومات الاقتصاد الوطني، بإفقار المجتمع وتهجير قواه الحية، وبمصادرة مستقبل الأجيال القادمة.
لم تعد إذاً مقولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية المعروفة موجودة في حياتنا، وإن كنا أحياناً نسمعها ونقرأها في النصوص الرسمية. لكن هذه النصوص الرسمية لا تساوي الورق الذي تُكتب عليه، أولاً لأنها تتبع منهج النفاق الاقتصادي، الازدواجية، تزوير الأرقام والوقائع والحقائق على طول الخط. إننا في سورية لا نمتلك رقماً واحداً حتى، حيث لا يمكن تزوير الرقم، أي في المصارف أو ميزانية المصرف المركزي وخزينة الدولة. هناك في سورية تُطبّق أشد أشكال السرية حيث الشفافية يجب أن تكون كاملة ومطلقة. يجب أن توضع هذه الأرقام المالية والمصرفية والنقدية في أيدي الشعب وكل باحث. فكيف نفسر هذه السرية التي لا مثيل لها في العالم: سرية الرقم المالي، سرية الرقم النقدي في المصرف المركزي، سرية الأرقام المصرفية. لذلك كنا نقول دائماً إننا بحاجة إلى فريق عمل وطني مستقل من خارج هذه الجهات ليقوم بجرد الحقيقة وتقديمها دون أي تزوير أو تحريف مما يستر التلاعبات الخطيرة التي تجري في قلب النظام الاقتصادي وفي جهازه الدموي والعصبي.
ويتحدثون عن الانتقال إلى اقتصاد السوق، لكن سورية لها منهج خاص مميز في الانتقال إلى اقتصاد السوق، أسميه اقتصاد السوق الأوامري، ليس فقط نظام التخطيط الذي اتبعناه كان نظاماً أوامرياً، بل إنهم ينتقلون إلى اقتصاد السوق بطريقة أوامرية. أي يفصّلون المصالح التي تتشكّل في هذا الانتقال على قياسات أشخاص محددين مسبقاً.
صدر أخيراً قانون السماح بالمصارف الخاصة والأجنبية، قانون لإنشاء الجامعات الخاصة والأجنبية، لكن كل هذه الإحداثيات الجديدة من مصارف وجامعات وبورصة مصادرة مسبقاً لأسماء محددة مسبقاً. وبالتالي فإن ملكية الشعب السوري تزداد انحصاراً، الملكية الاقتصادية في سورية تزداد انحصاراً، وربما هذا أخطر تحول في أي نظام اقتصادي بغضّ النظر عن طبيعته. الرأسمالية الاحتكارية تضع على رأس اعتباراتها الشعب، تحاول قدر الإمكان إشراك الشعب في الملكية وتضمن حداً أدنى لمستوى معيشته. وهنا، مقولة الشعب والإنسان والمواطن لم يعد لها مكان ولا حساب في سياسات إدارتنا الاقتصادية في سورية. لذلك ممنوع إجراء دراسات تكشف الواقع الحقيقي الاقتصادي والاجتماعي، ممنوع إجراء دراسات عن الفقر، ممنوع معرفة البطالة الحقيقية، ممنوع معرفة لماذا يتدفق الناس طلباً للهجرة، ممنوع معرفة كيف يتطور المستوى الغذائي للسكان والمستوى الصحي وكيف يتطور تلبية الحاجات الأساسية من مسكن وملبس وغذاء وصحة وتعليم، وممنوع معرفة كيف يتطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي حقيقة على الأرض في سورية.
لذلك أتساءل أمام تلك السياسات الاقتصادية التي فندناها مطولاً في ندوات الثلاثاء الاقتصادية، من هي الجهة الرسمية في سورية التي تضع السياسة الاقتصادية وتناقشها وتقرّها وتتبع تنفيذها؟ إنهم أفراد، هل هم فعلاً الأفراد، هذا الوزير أو ذاك، هذا المدير أو ذاك؟ ظاهرياً يبدو الأمر كذلك. وأخطر الوزارات التي تتحمل أخطر المسئوليات الاقتصادية يبدو وكأن السياسة الاقتصادية تنبع منها وتصب فيها. ولا يوجد جهة رسمية في سورية - رغم أننا نتحدث عن حزب قائد وعن جبهة وطنية ومجلس شعب ومجلس وزراء ولدينا جامعات وآلاف الاقتصاديين حملة الدكتوراة - لكننا لا نرى جهة رسمية في سورية تبحث في ما هي السياسة الاقتصادية - الاجتماعية المناسبة في سورية، تناقشها وتقرها وتتبع تنفيذها وتحاسب على نتائج هذا التنفيذ. ولا أعتقد أن هناك بلداً وصل إلى هذه الدرجة من التسيّب، فأخطر السياسات الاقتصادية التي تحدد مصيرنا هي ظاهرياً تبدو أنها من صنع أفراد تنبع من بين أصابعهم وتصب عندهم، وكان الشعب بكامله والمجتمع بكامله والدولة بمؤسساتها وسلطاتها المختلفة لا علاقة لها بهذه القضية، وهي قضية بيروقراطية فنية لا أهمية لها على الإطلاق.
فعندما نتناول أي سياسة أو أي قرار اقتصادي نتساءل: هل واضع هذه السياسة أو متّخذ هذا القرار أو منفّذه، هل سمع بشيء اسمه المنطق الاقتصادي، علم الاقتصاد، السياسة الاقتصادية المبنية على أساس علمي، المرتبطة بأهداف اقتصادية واجتماعية محددة؟ إن ما نشاهده من قرارات ووقائع على الأرض إنما يجافي وبشكل صارخ المنطق الاقتصادي والعقلانية الاقتصادية والمصلحة الوطنية والاجتماعية والنظام الأخلاقي وكل شيء إنساني. هذه المجافاة ترجع إلى أننا تجاهلنا أن الإنسان هو الهدف وهو الغاية، رغم أن هذا الشعار معلّق في كل مكان: الإنسان هو هدف التنمية وغايتها، لكننا نعاني ازدواجية. بكثرة ما نعلّق هذه الشعارات بقدر ما نتجاهل حقيقة السياسات التي تعمل ضدها على طول الخط. وهنا أتساءل: ما هي المكانة التي يعطيها نظامنا للإنسان في منظومته الاقتصادية - الاجتماعية، حاجاته، ضرورياته، العلاقات بين الأجيال؟ عندما ندمر أهم مقومات البيئة الحيوية في سورية حلال عشر سنوات، ونستنزف الثروات الباطنية غير المتجددة من نفط وماء، ونهدرها بوحشية، لا يمكن أن يفعل هذا الفعل إلا عدو، هل فكرنا بالإنسان، بالمستقبل، بالصراع مع الصهيونية والإمبريالية الذي يشغل حياتنا كلها ويبرر كل هذه المفاعيل؟ إذاً أقول في السجون قد يُهان الآلاف ويُذلون، أما في الاقتصاد فتكرم البلاد أو تُباد العباد.
في سورية أصبح الوضع النموذجي المعتاد للمواطن أن يكون إما حاكماً أو محكوماً. أما أن يكون لا حاكماً ولا محكوماً فهذه وضعية غير مفهومة لا من قبل الحاكمين ولا من قبل المحكومين. أن تكون حاكماً عند أي مستوى كان، من مستوى الشرطي .. إلخ، يعني أن تكون طليقاً من الضوابط تجاه المجتمع وتجاه القانون وبالأخص القانون المالي، تقول للمحكومين ما تشاء وتفعل في مصالحهم ما تشاء دون أن تسألهم أو ترجع إليهم في شيء. في روما العبودية قبل 2000 عام، كانوا أسياد العبيد يختارون لإدارة مزارعهم الأكثر خبرة في الزراعة والأكثر قبولاً من قِبَل العبيد، أما في سورية النصف الثاني من القرن العشرين فلم يعد لا شرط الكفاءة ولا شرط القبول من العبيد ضروريان في من يتمطعون لإدارة مزارع العبيد. فأسياد العبيد الجدد ليس لهم علاقة بالاقتصاد الوطني، لهم علاقة باقتصادهم الخاص فقط، وليست الإنتاجية من بين شواغرهم لأن مصادر ثرواتهم لا تتوقف لا على وضعية الاقتصاد ولا على مستوى الإنتاجية والربحية. ففي الأزمات والكوارث يمكن أن تكون مداخلهم أكثر منها في الرواج والازدهار. أما أن تكون محكوماً فهذا يقتضي أن تنظر كما كان عبيد روما إلى جميع الأوضاع المحيطة بك والحاكمة عليك باعتبارها الخيار الحتمي الوحيد أو الخيار الأمثل من بين جميع الخيارات الممكنة. وانطلاقاً من هذه النظرة فأنت "حر" في تدبير شئونك الحياتية على مبدأ "يدك وما تطول".
أن تكون منظومة مستقلة خارج المنظومتين الحاكم والمحكوم، أي معارضة، فهذا يجعلك في نظر الحاكمين خائناً وفي نظر المحكومين شاذاً. ولعمري إنها الدلالة الأهم على أن سورية كانت خلال العقود الأربعة المنصرمة تعيش خارج العصر. ولهذا نقول: لم يعد أمام سورية أية إمكانية لإضاعة عاماً واحداً آخر بعد ما أضاعت من عقود. لم يعد أمامها إلا أن تدخل العصر بنظام يشتمل على معارضة معترف بها قانونياً وواقعياً تملك جميع شروط العمل الحر في السياسة تنظيماً وإعلاماً، وكفى اختزالاً لشعب تعداده 18 مليون بأربعمائة اسم أو في مائة اسم، مواصفاتهم الأهم أن ثقة الأجهزة المتعددة قد تقاطعت عندهم لتمنحهم بطاقة الدخول إلى منظومة الحاكمين، وفي رقابهم مفاتيح الجنة، ودون استعداد للاستشهاد في سبيل أي قضية.
منذ عشر سنوات عرّفت المسألة الاقتصادية بأنها في سورية هي مسألة غير اقتصادية بالدرجة الأولى. إذا كنا نتحدث عن الإصلاح، أي إصلاح: سياسي أو اقتصادي أو إداري أو تشريعي أو إعلامي، فإن مربط فرس الإصلاح، هنا وليس في أي مكان آخر، أن سورية دولة وشعباًً، اقتصاداً وإدارةً، علماً وأخلاقاً، قد دفعت غالياً ثمن النهج الفوقي والانتقائي في تشكيل وفرز طبقة الحاكمين من الأعلى التي لا ترتبط بشيء ولا تحتكم في شيء إلا طبقة المحكومين. لقد آن الأوان للانتقال من هذا النهج المصطنع المدمر إلى النهج الطبيعي، إلى الشعب ليكون الأرض التي ينبت منها الحاكمون والتي تحكم على جدارتهم. وبالرغم من جميع عيوب ونواقص الديمقراطية التي نعرفها فإن التاريخ لم يخترع أسلوباً أكثر جدوى كنظام حكم ومنهج حياة. ولا يحق لأحد الادعاء بأن الديمقراطية نظام غريب مستورد، فلدى كل شعب على الأرض تراث خاص في الديمقراطية، ورغم الطيف الواسع لأشكالها فهي من حيث الجوهر واحدة في نهاية المطاف، إنها حكم الشعب للشعب وليس حكم المبشَّرين بالجنة والمنتقين.
إن أربعة عقود أو عمر جيل من التجاهل القانوني الديالكتيكي المحرك للتطور، قانون نفي النفي، والقائل بالتطور من الوضعية إلى نقيضها إلى التركيب بين الاثنين وهو قانون طبيعي إلهي، وقهر هذا القانون وإذلاله بشعار دنيوي وضعي هو الثبات إلى الأبد، قد أدى إلى انتقام هذا القانون لنفسه بأن خالف طبعه في التطور إلى الأمام وإلى الأعلى بوقف منحنى النهوض ونكسه إلى نقطة البدء، وهو ما جرى لكل نظام تجاهل هذا القانون. ففي سورية كما في الاتحاد السوفياتي جرى التحول من نظام التحالف الإقطاعي التقليدي المتفسخ والبورجوازية الصاعدة الوضعية إلى نظام التحالف الثوري المتفسخ والبورجوازية الطفيلية، وذلك عبر النقيض الذي كان يُسمى البناء الاشتراكي المتآمر عليه بالتثبيت المتناقض مع الديالكتيك ليلفظ النقيض أنفاسه بعد عقود وهو مازال يجترّ ذكرى ليلة الدخلة على أنها الليلة القدر ولكنها ليلة قدر غير قابلة للتكرار.
هكذا نجد أنفسنا في سورية اليوم وبعد أربعة عقود ونحن أحوج ما نكون إلى الإحياء لاستعادة الوعي والروح والقوى المادية والمعنوية للانطلاق من جديد. وإذا كان التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا ظهر ما يشبه التكرار فإنه يكون تكراراً ساخراً، كذلك شأن من لا يتخذ من التاريخ الدروس والعبر، فلا يعترف بأن العالم قد تغير، وأن الجديد لا يمكن أن يكون لا تقليداً ولا استمراراً للقديم حتى بما له، فكيف بما عليه!، لأن هذا الاستمرار حتى إذا اعتُقد أنه حوامل قوة وإيجابيات، فلن يكون إلا إضاعة للزمن وللفرص وللإمكانيات، فإذا كان متشدداً في التمسك بالأشكال التي أكلت عمرها منذ زمن طويل فسيكون نوعاً من الانتحار.
من هنا ضرورة التجاوز وهو مقتضى فعل قانون نفي النفي الذي إذا لم يُلبَّى بشكل واعٍ فسيفعل فعله بشكل مدمر. فلا بد من تحرير هذا القانون الذي لا يُقهر بخلاف دساتيرنا وقوانيننا وأنظمتنا الإدارية والمالية التي طالما أعلنتُ عن جائزة تقديرية لمن يكتشف فيها مادة واحدة بقيت حية بعد أن جفّ حبرها ومطبّقة فعلاً .. اللهم باستثناء مادة واحدة أصبحت تنافس الشرائع السماوية في الخلود، إذ أنها تُطبَّق من قِبَل كل من هبّ ودبّ وبمناسبة ومن غير مناسبة، ومنذ 50 عاماً وهي تزداد شباباً: إنها المادة 85 في قانون الموظفين الأساسي وسَمِيتها الأكثر قماءة منها المادة 138 من قانون العاملين الموحَّد، ولتكون سورية مع هذا النسل البغيض من التشريع، الدولة التي تدخل القرن الـ 21 بهذه الإشكالية. هذه المواد التي تتدعم بتوجيهات تلغي مادة في الدستور التي تقول إن حق التقاضي للمواطن مُصان، فكيف نتحدث عن الإصلاح والتنمية والاستثمار ونحن أسرى هكذا مناخ عام؟ وأي استراتيجيات أو خطط أو قوانين تنفع ما دام ربيع دمشق الموعود مُحْتَبَس، وتتمنّع أزاهيره من التفتّح، ومادامت وجوه وقوى الشفط والنحس تنغّص العيش على البلاد والعباد؟
إن شعبنا ميّال بطبعه إلى الاستبشار بالخير، بل وإلى المغالاة أحياناً في استبشار الخير، وكم سيكون الخير عميماً بملاقاته في منتصف الطريق بموكب نظيف من أولئك الذين لم يضيعوا يوماً واحداً من عمرهم في فعل خير واحد لشعبهم، وإنما فقط ودائماً في التعالي عليه وامتهانه وابتزازه واستباحة حقوقه وثمرات كفاحه وحرمانه من فرص الارتقاء واعتباره جموعاً من العوام قاصرة عن التعبير عن حاجاتها وتطلباتها وعن انتخاب من هو أصلح لتمثيلها وإدارة شؤونها ومصالحها، ومن هو أقدر على تعويض البلاد عما ألحقه وجوه الشفط والنحس بها من الإفقار والإذلال والأزمات والكوارث!
إن شعبنا جدير بأن يُقال له: لن نفرض عليك من اليوم بالقوة أو بنص تشريعي حزباً قائداً أو جبهة حاكمة يحتكرون تقاسم مراكز السلطة إلى الأبد، وإنما سيكون الخيار لك في تحديد النظام الاقتصادي والاجتماعي الأفضل لحياتك. فهل بقي أمامنا غير هذا الإصلاح كنقطة انطلاق للخروج من العطالة والجمود إلى الإبداع والنماء والتجدد؟
سأقدّم نماذج من تلك السياسات، أقول سياسات مرسومة بشكل واعٍ ومخطط وهادف، ولكنني أتساءل وأسألكم: كيف يمكن لهذه السياسات أن تُنَفَّذ ولأية غايات ولأي أهداف؟ إذا كنت قصير النظر، لم أستطع اكتشاف تلك الغايات السامية لمثل هذه السياسات، فأنا سأكون سعيداً لو أن أحداً من المسئولين تفضّل مرة واحدة وقال: إن ما تقوله خطأ، وأنت لا ترى الحقيقة، والحقيقة هي كذا وكذا. إن ما أسمعه دائماً هو أن ما تقوله صحيح بالكامل، ولكن ونحن نوافقك على كل كلمة تقولها نقول لك لا نستطيع فعل أي شيء.
إذاً من هو الغامض الذي يدير شئوننا المصيرية؟ آن الأوان للكشف عن هذا الغامض، ولن تكشف عنه السلطات المسئولة ولو بقي هذا الغامض ألف عام آخر يفعل ما يفعل، ولن يكشف سر هذا الغامض إلا الشعب المحرر من القيود بالديمقراطية، بالإعلام الحر المفتوح، بحرية التنظيم والرأي، سيجد هذا الغامض نفسه محاصراً، منبوذاً لا مكان له في هذا الوطن.
هذا الغامض ليس غامضاً تماماًً، إنهم أصحاب المليارات الذين أصبحوا يمتلكون مليارات الدولارات خارج هذا القطر، ليس من رواتبهم وليس من أرباح مشروعاتهم، لكن أحداً لم يسألهم كيف ومن أين؟ بل إن أحداً لم يسألهم كيف تحمّل ضميركم أن تفعلوا بشعبكم وباقتصادكم الوطني وبدولتكم ما فعلتم بحرمانهم من كل شروط الحياة والتقدم والنماء والازدهار، وإيداع حصيلة هذا الحرمان عشرات المليارات من الدولارات عداً ونقداً في جيوب المؤسسات الإمبريالية الصهيونية؟ ومع ذلك يزايدون علينا بالوطنية، ويتهموننا بأننا نحن الذين سنستقدم الإمبريالية والصهيونية. نحن وليس هم الذين أهدوها على الأقل مائة مليار دولار من ثروة ومداخيل الشعب السوري، وهذا الرقم يعادل خمسة أضعاف كل الاستثمارات الإنتاجية في سورية. ففي السياسة المالية مهمة أية دولة، أية سلطة وأي نظام هي تنمية قوى الإنتاج الوطنية، أي الارتقاء بقوى الإنتاج عاماً بعد آخر، لكن أن نجد قوى الإنتاج في سورية اليوم عام 2001 أضعف بكثير من قوى الإنتاج في عام 1980 فهذه حالة لا يمكن تفسيرها بأية نية طيبة على الإطلاق.
منذ أكثر من 20 عاماً توقف الاستثمار الإنتاجي تقريباً في سورية، الاستثمارات الإنتاجية الجديدة لا تعوض جزءاً من الاستهلاك الذي تتعرض له قوى الإنتاج القائمة في سورية. لذلك فإن الحصيلة بالطبع هي تدهور الإنتاجية العامة، وتعبير ذلك هو أن متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي في سورية اليوم، حسب الإحصاءات الرسمية، هو أقلّ منه عام 1980. إذاً سورية أضاعت 20 عاماً من عمرها، ليس لأن الشعب السوري لم ينتج، ليس لأن الاقتصاد السوري لم يكن لديه قيم فائضة خلال هذه الفترة، على العكس، ولكن لأن كل هذا الفائض الاقتصادي أدى إلى ازدهار اقتصاد القلة وصبّ في خارج البلاد.
لن أتحدث هنا عن الفساد الفردي الذي لم يعد فردياً، إنما أصبح نظام حياة عاماً. هناك ما هو أخطر من الفساد، وهو سياسات عامة تخلق الأرضية التي تجعل الفساد حتمياً. منذ بداية التسعينات وحتى اليوم تقوم مثلاً وزارة المالية بوظيفة واحدة هي تجميع الأموال من عروق الاقتصاد الوطني ومؤسساته ومواطني هذا البلد. مثلاً في عام 1993 كان حساب ودائع الدولة لدى البنك 100 مليار ليرة سورية، أصبح في شهر حزيران من عام 2000، أي قبل عام ونيف، أصبح 365 مليار ليرة سورية. إذاً وزارة المالية أضافت إلى حسابها في البنك 265 مليار ليرة سورية، بمعدل 3.5 مليار ليرة سورية شهرياً، وهي حالة غير معروفة في التاريخ الاقتصادي. وهناك تكديس للدولارات خارج القطر وبمعدل، خلال هذه الفترة، 3 مليارات ليرة سورية شهرياً. إذاً نحن أمام 6 مليارات ليرة سورية شهرياً وبشكل منتظم منذ عام 1993 وحتى اليوم تُسحب من الاقتصاد الوطني مجموعها السنوي يزيد عن مجموع الرواتب والأجور في سورية ويزيد عن مجموع الاستثمار الإنتاجي في الاقتصاد السوري، بل في الستة أشهر الأولى من عام 2000 ارتفعت حصيلة هذه المسحوبات إلى ما يقارب 14 مليار ليرة سورية شهرياً.
نحن البلد الوحيد في العالم الذي نطّلع فيه على أحدث الأرقام التي مضى عليها عام ونصف أو عامين في أحسن الأحوال، ففي لبنان ومصر والأردن وأمريكا تعطيك وسائل الإعلام دون أن تطلب وتبحث، تعطيك آخر الأرقام المالية وأرقام التجارة الخارجية وكل الأرقام الاقتصادية الهامة يوماً بيوم وأسبوعاً وشهراً بشهر. حكوماتنا اتبعت منهجاً غير معروف في العالم، وهو تأخير المعلومات من 3 إلى 5 سنوات لتضع ميزانية العام القادم (2002)، وليس لديك إلا معلومات الأرقام الفعلية من ميزانية عام 1997 التي لم تُقدَّم حتى الآن إلى مجلس الشعب لقطع الحسابات، علماً بأن إظهار ميزانية العام الماضي كأساس لوضع الميزانية التقديرية للعام الحالي لا يتطلّب غير كبسة زر، فالأرقام موجودة بين أيديهم. فهم يتعمدون هذه التعمية وكتم المعلومات حتى لا يمتلك أحدنا القدرة على التحليل والمواجهة. بعد 5 سنوات عندما تظهر الأرقام الحقيقية يكون "من ضرب قد ضرب ومن هرب قد هرب، واشرب ماء البحر". فالمسألة الاقتصادية في سورية هي ليست اقتصادية، بل هي سياسية بالدرجة الأولى.
أتساءل: هل القيادة القطرية ناقشت هذه السياسة التي أدّت إلى ركود وبطالة وأزمة اجتماعية وهجرة وتردّي مستوى المعيشة..؟ من ناقش هذه السياسة؟ ومن أقرّها؟ وما الأهداف المبررة لهذه السياسة؟
من حسن الحظ أن المسئولين الاقتصاديين هم أنفسهم منذ 30 عاماً، ولم يتغيروا. فمصارفنا لم تعد مصارف على الإطلاق، ولا شركاتنا شركات، والقطاع العام محمل بديون أكبر بكثير من رأس المال. ومنذ سنوات لم نسمع عن مشروع جديد في سورية يُموَّل إلا بالقروض والمعونات، أي بالتسول. لماذا هذا الإذلال لوطننا وشعبنا مع أنه لدينا في الخارج 10 مليارات دولار، وفي الداخل ربما لدينا 500 مليار ليرة سورية؟ إنهم يزيدون عن حجم الدخل القومي لمدة عام كامل. وفي موضوع الاقتصاد يمكننا أن نتحدث أياماً طويلة .. وآن الأوان أن ندخل العصر الحديث .. وشكراً.
__________
* نص محاضرة أستاذ الاقتصاد الدكتور عارف دليلة عضو الهيئة التأسيسية لمنتدى الحوار الوطني، والتي أُلقيت في منتدى جمال الأتاسي بدمشق في 2 أيلول 2001، واعتُقل بعدها وأُحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا

الفيديو

قال الدكتور دليلة في لقاء مع الجزيرة أن النظام يحاول أن يفرض إملاءاته على الشعب السوري ويسمي ذلك حوارا.
وقال أيضا: ليعط النظام اسبوعا من الحريات, فسوف تملؤ هذه الشخصيات الساحة والجرائد والإعلام.  

هذه هي مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة الثامن من الشهر الجاري:



0 comments:

Post a Comment