العصفور العائد إلى يافا
القدس المحتلة – كلمات سعيد الغزالي
(حزنا على استشهاد 23 فلسطينيا على الحدود في طريق عودتهم إلى فلسطين في الذكرى الرابعة والأربعين على هزيمة عام 1967)
كان شعري فاحم السواد
كنت في عز شبابي
طموحا
أمد يدي إلى النجمة العالية وأمسكها بأصابعي
كانت نجمتي يافا
تلك الجنية التي كان جدي يحدثني عنها
عن بيارة البرتقال
عن شاطيء البحر
عن الحسكات وصيادي الأسماك
عن الصلوات في مسجد البحر
كيف تركتها يا جدي؟
كنت أسأله
وكانت نظراته تتلبد بغيوم داكنة
صوته يتهدج
تتأجج جمرات الحزن في عينيه
لا تقل أنك لم تعد قادرا على المشي
لا تقل أنك هزمت
لا تقل أنك لن تعد إليها
إن لم تعد أنت, أعود أنا
إن لم أعد انا, دمي يعود إليها
قلت لجدي
ودعت قاسيون؟
تركت ذكرياتي في سوق الحميدية
وانطلقت مع الجموع إلى يافا
كلنا, انا والرفاق العائدون, حملنا أرواحنا على أكفنا
اتجهنا صوب تلك الجنية التي سكنت أرواح أجدادنا
وسرت في شرايننا
وصلنا إلى الحدود
كان الرصاص يلعلع في الفضاء
اقتربت من ساحل البحر
كان بيني وبينها مسافة رصاصة من بندقية قناص
وعدت جدي بأن الرصاص لن يعيقني من الوصول إليها
اطمأن جدي
ثم نظر بحنان في وجهي
قال والدموع في عينيه:
"أخاف عليك يا بني"
"مم تخف يا جدي؟"
سألته:
أجاب: الناس يخشون الرصاص
وبكى....
سال دمعه على لحيته البيضاء
كان رأسه مكللا بالفضة
وكان بحر يافا في عينيه
تذكر كيف أبعده الرصاص عنها
أشرق وجهه بفرح عجيب
قال: إني أسمع هدير الموج في يافا
إنه الرصاص اللعين الذي أبعدني عنها
قلت: الزمن تغير يا جدي فلا تحزن
والرصاص لا يخيفني
إذن أنت عازم على الذهاب إليها؟ سألني جدي
عازم... هذا أمر مؤكد، أجبت.
قال: أوصيك يا بني عندما تصل إليها.... هناك شجرة برتقال
اسقها... لعلها تتذكرني
ودعته
كان دعاؤه يرافقني في الطريق إلى يافا
وصلنا الحدود
كان الرصاص يقترب من بوابة الجسد
رصاصة واحدة اخترقت القلب
سقطُ على الأرض وتضرج التراب بلون دمي
كيف أنني, أنا الذي جئت, متوهجا ببهجة دمي الراعش في عروقي
كيف لم أنتبه إلى بساتين التفاح في الجولان؟
أيجوز أن أمرعلى التفاح دون أن أرويه بدمي؟
كنت متوجها إلى تلك الشجرة في بيارة جدي
قال اذهب إليها, واسقها يا بني, كما كنت أفعل في صباي
اسقها قبل أن تضرم الشمس نورها في الفضاء
قبل أن تسخن مياه البحر
ذهبت
لم انتبه إلى أن لون دمي ابتهج كتفاح الجولان؟
واختلط طعم الدم المهراق في حلاوة التفاح
امتصه التفاح رحيقا
كم هي قاسية اشجار التفاح؟
لماذا لم تتركي أيتها الاشجار الحالمة بالجنة قليلا من قطرات دمي لشجرة البرتقال في يافا؟
تذكرت ما قاله جدي
قال لي جدي: احذر, لعل الحدود الغادرة
لعل الألغام المختبئة تحت السياج
لعل الرصاص الذي تطلقه الذئاب إلى صدرك سترديك شهيدا
كنت أعرف ذلك
كان يؤلمني إدراكي أن دمي ربما لن يصل إلى يافا...
قال جدي: الحدود الغادرة لن تترك لك مزيدا من عصافير الأيام
ستطير ايامك دفعة واحدة في الفضاء
ستطير أيامك أسراب عصافير في السحاب
وربما يحمل عصفور رسالتك إلى يافا
ربما يصل عصفور إلى بيارة جدك.
كان لا بد أن يمر دمي على قرية مجدل شمس
ومن هناك يطير عصفورا إلى يافا
اقترب العصفور تحت القبة الزرقاء فوق البحر الأزرق
كانت يافا تنتظر
رأتني
أحسست بالقلب يقفز من صدري
سألت دمي: أتذكر أيها الدم المهراق مسجد البحر على شاطىء يافا
إن كنت لا تذكر, اذكرك
كان جدي يصلي هناك
ها هو المسجد أمامي
لكن العصفور كان يحس بعطش شديد
أضرم روحه في الموج الأزرق
سألني العصفور: ماذا قال جدك عن طعم البحر؟
قلت إن جدي قال لم يكن طعم البحر ملحا أجاجا
كان حلو المذاق كحلاوة البرتقال
وتساقطت قطرات من دم العصفور في البحر
استقرت رصاصة القناص في القلب
0 comments:
Post a Comment