حكايات حنكشتيكا الساخرة
الحلقة رقم 29
سعيد الغزالي_ القدس المحتلة
شكرا للحركتين على إدخالنا إلى الدوامة القديمة
ضج العالم، تفاجأت الصحف، صرح المسؤولون، بدأت المناوشات بين الأطراف الإقليمية والدولية، حدث زلزال، بعضهم قال، وبعضهم هدد بأن السلام سينهار، وبعضهم قال بأن الثورة انتصرت في فلسطين.
فماذا جرى، يا إخوان؟ لعلي كنت في المريخ، رغم أني لم أخرج من بيتي، الذي لم تهتز جدرانه بأي زلزال، بأي درجة، لا على مقياس ريختر، ولا على مقياس ميدان التحرير.
أخبروني ماذا جرى؟
أخبرت بأن اتفاق مصالحة وُقعَ بين حركتي فتح وحماس. تحية سلام وتعظيم للطرفين. اتفقت الحركتان، فشكرا للحركتين وللوفدين المجتمعين في القاهرة، شكرا لهما على إنهاء خلاف وحرب وضرب عشناه خمس سنوات، شكرا لأنهم استبدلوه بالعودة إلى الدوامة.
الشعب الفلسطيني لم ينل من الحركتين إلا الشقاق والنفاق، والآلام والفواجع الناجمة عنه. شكرا للحركتين، فلم تجف دموعنا على الشهداء الذين سقطوا، شكرا لهذا الشعب الفلسطيني المسامح الذي لا يحاسب الذين أخطأوا بحقه وبحق مستقبل أبنائه. شكرا لهما على اتفاقهما، رأيناهما عدوين لدودين، سمعنا كلام النفاق، وسمعنا كلام الشقاق، ولا ندري هل هو اتفاق على النفاق قبل الشقاق الجديد.
شكرا لهما على إدخالنا إلى الدوامة من جديد.
رغم ذلك، لا يملك حنكشتيكا إلا أن يبارك الاتفاق، فعندما يكون الشعب متسامحا أكثر من اللزوم، على حنكشتيكا ان يتسامح كالشعب، فيغفر للحركتين، ويفرح لأنهما أتفقا، هل يجب على حنكشتيكا أن يعوم ضد التيار. نعم، يجب على حنكشتيكا أن يعوم ضد التيار، وليكن ما يكن، حنكشتيكا لا يخشى في الحق لومة لائم. نعم يتوجب على حنكشتيكا أن يصيح بأعلى الصوت: هذا الشيء لا يريده الشعب.
اتفاقات سابقة وقعت ثم انهارت. يقولون إن الوضع مختلف الآن. هذا صحيح. برغم اختلافه، هناك انعدام ثقة بين الطرفين. الشعب الفلسطيني لا يثق بالطرفين. الشعب يريد شيئا آخر، الشعب يريد إنهاء الإحتلال. الشعب يريد من الطرفين أن يعترفا بأخطائهما، وعجزهما، وعدم أهليتهما للقيادة.
كان حنكشتيكا خلال الأيام السابقة يفكر ويتأمل وكان محتارا. تفائل ثم تشائم، صُدم، دهش، استغرب، تقدم، تراجع، تردد، تشائل، لكنه في الوقت ذاته صمم على أن يطرد الأفكار الشيطانية من رأسه، ويبتسم ويفرح، ويرقص كمواطن يصدق ويصفق كل ما تسمعه إذناه، ولا تراه عيناه خلف الكواليس، ويضع رأسه بين الرؤوس، بعبارة أخرى، يتوجب عليه أن يمتنع عن التفكير.
ولما أحس بأنه صار فردا من أفراد القطيع، انفرجت أساريره، وقال: بعد شقاق وانشقاق دام سنوات، اردد ما قالته الإذاعات والوكالات: حدث الوفاق والإتفاق أخيرا، قرر الرفاق، إخوة الدم، الإخوة الأعداء، أبناء الحركتين المتعاديتين التوقيع على مصالحة تعيد اللحمة بين الرأسين، أحدهما رئيس في رام الله، والآخر رئيس وزراء في غزة. انتهت ولايتهما الانتخابية وفقدا الشرعية، لكنهما ما زالا يتمسكان بالحكم والسلطة.
وافق الطرفان على تشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات خلال عام، وهذا لا يعني التوحيد، ستبقى حماس هي الآمر الناهي في قطاع غزة، وستبقى فتح هي الحاكم الثاني، بعد إسرائيل في الضفة الغربية، وسيبقى الطرفان كل قابع في مملكته الجغرافية، وبينهما برزخ جغرافي وآخر سياسي، وثالث بنيوي من حيث التوجهات الفكرية المتضاربة، ورابع ثأري، وخامس، وسادس، ولا يجمعهما إلا شيء واحد هو الأزمة الخانقة التي تعيشها الحركتان.
إن معيار نجاح الاتفاق هو الشق العملي، وما الأمل بإطلاق سراح المعتقلين من الطرفين إلا جانب واحد.
الاتفاق لم يعالج الأزمة الكبيرة التي تواجه الشعب الفلسطيني، وهي تشكيل القيادة الموحدة للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده كبديل عن الفصائل المتناحرة. إن العودة إلى المماحكات القديمة بين الطرفين سيؤخر القضية ولا يقدمها.
لماذا يصر الناس على تجريب المجرب، وتكرار التجارب الخائبة؟ وهل قدر الشعب الفلسطيني أن تقوده الحركات الفئوية؟ اتفاق المصالحة ليس نهاية للخلافات بينهما بل هو عودة إلى الدوامة القديمة، وسيبقى الشعب الفلسطيني كرة يتقاذفها اللاعبون الإقليميون. واسفاه، إن الشعب الفلسطيني الكسول، لا يزال يضع ثقته بتلك الفصائل رغم ما جلبته عليه من خراب وفشل.
في الوقت ذاته، يخاف حنكشتيكا من نفسه، ويخشى أن يتطرف بتفكيره فيظلم هذه الفصائل، فلا يرى إلا شرها ويتجاهل خيرها، يتجاهل نضالها وتضحياتها، وقيامها بحمل راية القضية الفلسطينية.
لا يعقل أن يبقى حنكشتيكا سلبيا تجاه اتفاق يوحد المتخاصمين، سيهتف للوحدة مع الهاتفين، ويرقص محتفلا بها ويغني: ذهب العناء، ذهب الشقاء. حنكشتيكا، لم يكن مثل غيره، يفرح ويغضب بسهولة، إن براكينه لا تثور بسرعة، ولا تندفع مياهه من أعماقه سريعا، نكدي، متشائم، يرى دائما نصف الكأس الفارغة، لكنه هذا المرة أراد أن يتروى قبل أن يتخذ موقفا بشأن الاتفاق بين فتح وحماس.
اختار أن يستشير أصحابه، فدعا الحمارين أبا صابر وورد، وصديقه أبا معروف، والصحفي ناصر نصر نصري إلى المجيء إلى مكتبه بالقدس حالا لمناقشة الاتفاق الذي وصف بأنه اتفاق تاريخي. وقال في نفسه: أصبحت أيام السنة كلها لدينا تاريخية، ونقاط تحول ما بين مرحلة وأخرى، لكن حياتنا لا تزال على ما هي عليه راكدة.
اجتمع الخمسة حول الطاولة المستديرة. وجه حنكشتيكا السؤال إلى أبي صابر باعتباره من أشراف الحرس القديم، ويتمتع بحنكة سياسية وتجربة يعود تاريخها إلى ثلاثين أو أربعين عاما خلت.
سأله حنكشتيكا ، بعد أن استقر في مجلسه: أتحفنا برأيك، لعلنا نهتدي به في هذه الفترة المفصلية من تاريخنا، ونعرف إلى أين ستقودنا بوصلة هذا الاتفاق؟ هل تعتقد أنه اتفاق تاريخي، كما أشيع؟ هل سينجح؟
هز أبو صابر رأسه مشككا بإمكانية نجاحه، معتبرا أنه لو كان اتفاقا تاريخيا، لاتخذ الطرفان إجراءات عملية، لا تخدم مصالحهما الفئوية، كأن يعلن أبومازن حل الحكومة، ويحذو اسماعيل هنية حذوة، لو فعلا ذلك، أو لو اتخذ أحدهما هذه الخطوة، لكان التقدم نحو تحقيق أهداف الشعب حقيقيا.
لا يعقل أن يبقى الشعب الفلسطيني متأخرا عن الثورات العربية، وهو الرائد. لا يعقل أن ينتظر الشعب الآخرين الحسابات الفئوية والاقليمية والدولية، وأن يقبل أن تجري المساومة عليه. لا يعقل أن تتجاهل الحركتان، والفصائل والحكومات العربية، والعالم أجمع أن الجغرافية الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لا تزال خاضعة للإحتلال؟
إننا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال.
هناك دولة واحدة لها سيادة مطلقة على فلسطين بأكملها من النهر إلى البحر، وهي إسرائيل، وهي تتحكم باتفاق أوسلو والقوة العسكرية، والهيمنة الإدارية، والسياسية على كيان السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وتسيطر بالقوة العسكرية والتعاون العربي الرسمي والدولي على كيان حركة حماس في قطاع غزة.
اعترض الفتى ورد على ما سمعه من أبي صابر واتهمه بأنه يعرض أفكارا متطرفة، لا يمكن تطبيقها على الإطلاق. رد عليه أبو صابر بقوله بأن الوفاق والاتفاق لا يكون إلا بصهر الفلسطينين معا في إطار نظام جديد، وقيادة جديدة منتخبة من كل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. أما أن نضع كيانين جامدين ومنفصلين ونضمهما إلى بعضهما ونقول اتفق الطرفان، فهذا لن يحدث، وإن حدث سيفشل.
أيد أبو معروف هذا القول وقال: هناك إيقاع جديد له جرس ثوري يجري في المنطقة، وعلى قيادات الشعب الفلسطيني الفصائلية أن ترتفع إلى مستواه، ويعني ذلك تحديد أهداف وأولويات جديدة للشعب الفلسطيني، وأهمها استبدال القيادة القديمة التي عفا الزمن عليها، وأصبحت بالية بقيادة منتخبة من كل قطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
أضاف أبو صابر بأن الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها في شهر سبتمبر القادم لن تكون إلا كيانا ذاتيا، لا يمتلك أي سيادة حقيقية على الأرض ، والنضال عبر المفاوضات العبثية نهج عبثي، والعمل العسكري أثبت فشله، ويتوجب على الشعب أن يختار اسلوب النضال السلمي من أجل إنهاء الإحتلال، اسلوب يستقطب أغلبية الشعب، ولا تقوم به النخبة فقط، لقد ولى زمان النخب، لذلك لا يغير الاتفاق شيئا على الإطلاق.
أصر الحمار ورد على القول بأن الاتفاق تاريخي وأنه "ضربة معلم". سأله حنكشتيكا من هو المعلم؟ وهل هو ضربة معلم واحد، أم ضربة أكثر من معلم. أشار ورد إلى أن الاتفاق يعبر عن تفاهم بين المجلس العسكري الأعلى وإيران. وقال بحماسة أن اتفاق الفصيلين يمثل أولى الثمار الملموسة للثورات العربية ، خاصة الثورة المصرية. وزاد على ذلك بالقول بأن المشهد السياسي الشامل في الشرق الأوسط بدأ يتغير.
أصر حنكشتيكا على القول بأن الاتفاق ليس أكثر من علاقات عامة ومظاهر لا تمت إلى الحقيققة والواقع بصلة، ووجد في شهادة ناصر نصري نصر ما يدعم قوله. قال نصر: قد يتهمني الفتى ورد بأنني ضد المصالحة، أو في أحسن الأحوال غير متفائل، ولكن لو نظرتم إلى ما يجري في الميدان ستقتنعون بصدق كلامي. هناك ألف قضية وقضية تدعوني إلى التمسك بهذا الإعتقاد، وأن الممارسات على الأرض لا زالت بعيدة كل البعد عن أجواء المصالحة. إن لي صديقا خرج من السجن بعد أن أمضى ثلاث سنين في سجون الاحتلال، قبل التوقيع على اتفاق المصالحة في السابع والعشرين من شهر إبريل، بأيام ، وجرى اختطافه من طرف الأمن الوقائي قبل أن يصل إلى بيته، لعدة ساعات، وحجزت هويته ثم أطلق سراحه لحين العودة للمقابلة بعد يومين. وجرى توقيع الاتفاق، لكنه نقل من مقر الوقائي إلى سجن جنيد في نابلس، ثم عرض أمام إحدى المحاكم الفلسطينية، وقال الشاب للقاضي: أنا أسير محرر، يجب أن أكون بين أهلي ولا أكون هنا في السجن. قال القاضي: خذوه من هنا وخليه ينقلع وهذا تمديد للإعتقال خمسة عشر يوما".
"هذا تصرف فردي من القاضي، ولا يجوز لك تعميمه. والأمور لا تزال في بواكيرها، ولا نتوقع أن كل شيء سيتغير في غضون أيام" قال الفتى ورد معترضا.
رد الصحفي نصر: ما أردت قوله أن النوايا الحقيقية والتوجهات الصادقة للعمل بموجب اتفاق المصالحة غائبة. لو كانت المصالحة حقيقية لفتحت أبواب السجون من الطرفين.
0 comments:
Post a Comment