معظمنا يكتب ألفاظا لا معنى لها, إن لم تسهم الكلمات في تغيير
الوعي, فلا ضرورة لها.
بقلم: سعيد الغزالي- القدس المحتلة
-1-
أنا مواطن فلسطيني عربي ولدت وعشت في مدينة القدس منذ 56 عاما, أنا بلا وطن, تقول وثيقة سفري الأردنية أنني فلسطيني مقيم في القدس, وتقول وثيقة سفري الإسرائيلية أنني اردني ولدت في إسرائيل. لا أملك جواز سفر فلسطيني ولا عراقي ولا سعودي. أشعر أحيانا أنني مصري، ولكن الهوية لا تحدد بالوثيقة, بل بمشاعر الانتماء, برغم هذا الارتباك الظاهري, إلأ أنني أحس بأنني حجر من حجارة سور القدس. أشعر في هذه اللحظة مثل الملايين من المواطنين الفلسطينيين بالضيق والغثيان, ويتنامى هذا الشعور لديّ كل يوم. تعودت كغيري أن ألقي باللائمة, في تشخيص الأزمات التي تعصف بالشعب الفلسطيني, على الإحتلال.
أسهل شيء أن أقول أن الاحتلال هو المسؤول, رغم أنه حقا المسؤول, لكنه ليس وحده, أنا المسؤول أيضا. وما أصاب الشعب الفلسطيني من نكبات وهزائم لا يعفيني من توجيه اللوم إلى نفسي, فأنا لم أتجرأ حتى هذه اللحظة, كبقية المواطنين الفلسطينيين من أن أقوم بعمل واضح, كالمرابطة في ساحة إحدى المدن الفلسطينية, وبدء عملية احتجاج لإسقاط السلطة وإنهاء الاحتلال.
لا زلت أهادن, ولا زال شعبنا يهادن. السلطة والإحتلال وجهان لعملة واحدة. يجب أن نقول ذلك بصراحة ووضوح, ونتوقف عن خداع أنفسنا.
بهذا الإدراك, ظننت أنني اهتديت إلى تشخيص حالتي, والإجابة على السؤال: لماذا أشعر بالضيق والغثيان؟
ربما لإدراكي أنني ذرة أو ذريرة في مهب الريح, لا تستطيع أن تصمد أمامها, ربما لتوقعاتي للنتائج القليلة التي ستحرزها الثورات العربية, ربما للألم الذي يعتصرني, لأن الثورات لم تحقق بعد أهدافها, ربما, لأنني أتوقع أن تطول الثورات سنوات وسنوات, وتطول معها المعاناة, قبل أن تحقق بعض أهدافها, ربما, لأن النظام الذي يحكمني أخرجني إلى خارج التاريخ, أو على الأقل أبقاني اعيش على هامشه.
ربما لأنني أعاني من نكسة مالية.
ماذا أفعل لكي أتخلص من هامشيتي وأدخل التاريخ, وأصنع ثورة؟ بقي السؤال يؤرقني, دون أن أظفر بإجابة ترضيني, وتضع اصبعي على الجرح. قمت بكتابة عدة صفحات, أعدت قراءتها عدة مرات, لكني, بقيت غير راض: هل كان اعتراضي على اسلوب الكتابة أم على محتواها, أم على الشكل والمضمون معا؟
كدت أن أتخلى عن مشروع الاستمرار في تغذية المدونة بالأفكار. وقلت لنفسي: لماذا لا أتصرف كالبهائم, فلا أفكر ولا أكتب ولا أغضب بل أدس رأسي بين الرؤوس, وأستمر في تأدية نشاطاتي الروتينية إلى أن يتوفاني الله مصابا بأمراض السكري والضغط والقلب.
-2-
بعد عدة أيام من كتابة هذه السطور, لا يزال الشعور بالغثيان يغزوني, أحيانا, يثير في نفسي رغبة التمرد, والخروج للمرابطة في ساحة المنارة في رام الله, وأحيانا أشعر بالرعب, وأهرب من تمردي إلى كهف استكانتي, وصقيع خضوعي. لا زال تشخيصي لحالتي ناقصا. لست متأكدا من مشاعري تجاه السلطة, أعطيتها فرصة سبعة عشر عاما لتتخلص من الاحتلال, فلم تستطع, ولم يبق أمامي إلا أن أنضم إلى الجوقة: أرفع ذراعاي مستسلما للإحتلال, وأشيد بالسلطة الفلسطينية وألعن الاحتلال وأستسلم.
-3-
أيتها النفس المتمردة, أخرجي للناس واشهري سيفك دون حساب للربح والخسارة. فقدت الاشياء معانيها الأصلية, فلا ربح مع العبودية, فحياة العبد ليست ربحا، وموت الحر ليس خسارة.
-4-
كم أكره هذا النظام الذي يضعني في قمقم, اسمه قبول الأمر الواقع.
-5-
كل يوم أسمع الصيحات المجلجلة: الشعب يريد اسقاط النظام, صيحات تكررها الشعوب العربية في مصر وتونس واليمن وسورية وليبيا والبحرين, وتدفع الثمن قتلى وجرحى. شعوب تطالب بالخبزر والحرية والعدالة والكرامة.
-6-
أيتها الشعوب, لا يحق لك أن تسألي الحاكم عما يفعل, العبيد لا يسألون, ولا يطلبون الحرية, فإن سألوا, فإنهم يتطاولون على الحاكم, المؤيد بالقبيلة والعسكر, الذي يحق له قتلهم. والعبيد لا يثورون, فقط هم الأحرار الذين يثورون, لذلك فمن حق الحاكم العربي أن يقمع عبيده, الذين كتب عليهم البقاء عبيدا.
-7-
الحقيقة, أيها السادة والسيدات, أن القيادة الفلسطينية في هذا الوطن تعمل كجامع للقمامة, هل يعتبر ذلك عيبا؟ بالطبع لا, ولكنها, برغم هذا الشرف, ليس لديها خطة واضحة,ومفصلة, توضح طريقة تعاملها مع القمامة.
القمامة هي مخلفات, وهنا نقصد بها مخلفات الهزيمة أو الاحتلال أو مخلفات أي فشل سياسي أو إداري أو تنموي. لكل عمل مخلفات, ومخلفات الاحتلال والسلطة: بطالة وعبودية ومستوطنات تتكاثر كالفطر, وضياع للأرض والإنسان, صنع الشعب انتفاضته الأولى, التي جلبت لنا سلطة تتعايش مع الاحتلال. هذه عجيبة, من المفروض أن تزيل الانتفاضة الإحتلال, وما حدث حتى هذه اللحظة شيء لا يصدق.
السلطة جاءت لتنقذ الاحتلال وتحميه من "إرهاب" الانتفاضة, وتريحه من تحمل نفقات إدارة شؤون شعب تحت الإحتلال, فحملت على عاتقها تكاليف إدارة شؤون المواطنين الصحية والتعليمية والخدماتية, بأموال الضرائب والجمارك والدول المانحة. تفعل ذلك دون أن تفقد "وطنيتها", وهذا أمر لا نصدقه أيضا.
السلطة جاءت لتجمع قمامة الاحتلال. كيف حدث ذلك؟
-8-
لم تتمكن السلطة من التخلص من نفايات الإحتلال, ومياهه العادمة، ومخلفاته الكيماوية, وأتربته وغباره المنتشر في كل مكان.
هناك إفراط في استخدام "مخصبات الاحتلال السياسية", التي ينجم عنها آفات التلوث, ونظرا للزيادة الكبيرة في عدد السكان, وضيق رقعة الوطن, تلوثت التربة والهواء والماء, أصيبت الطبقة السطحية من التربة بتشققات, وساعدت عوامل التعرية من رياح وعواصف وأمطار على جرف وإزالة التربة.
منعنا الاحتلال, أو الإدارة المتنفذة في السلطة من بناء أنظمة ري حديثة لصرف المياه الزائدة, والتقليل من تفتيت التربة وتشققاتها وعمليات الجرف.
الغبار والرمال السياسية الزاحفة من مؤتمرات الدول المانحة, ومن المصانع والكسارات والدخان الكثيف الناتج عن أماكن انتاج الفحم والفلاحة المستمرة في المناطق الجافة, أدى إلى زيادة الملوحة في التربة. البحر يجرف كميات هائلة من الرمال الذهبية الصفراء في شواطئنا, ولا زلنا نقوم بإلقاء مخلفات عمليات التطبيع والتركيع في أماكن متفرقة من الشواطىء. المياه العادمة تتسرب إلى البحر. هناك كميات هائلة من النفايات المنزلية والكيماوية المتكدسة على الشواطىء. فقدنا أكثر من 25 مليون متر مكعب من الرمال. اقيمت مقالع الاستيطان على مقربة من التجمعات السكانية, والاراضي الزراعية. انفجارات مستمرة وغيوم من الغبار وضجيج وإزعاج على مدار الساعة, اراض تضيع, تغييرات في مكونات مجاري الينابيع, لم تعد المياه الوطنية العذبة صالحة للشرب أو للزراعة.
-9-
وصلت الأمور إلى مفترق طرق: إما أن يتوقف هذا العبث, أو تنفجر الثورة. السلطة ليست مؤهلة لحل مشاكل التلوث, لكنها في الواجهة وتزعم أنها ستقود الشعب إلى الحرية والاستقلال. كيف ستنجز الحرية وتحقق الاستقلال؟
-10-
نفذ صبر الناس يا سلطة, بعد 17 عاما من الكلام والوعود والمفاوضات العبثية, وملوا سماع نفس العبارات المخدرة من قيادة منافقة وانتهازية وفاسدة.
-11-
عام 1994 قالت السلطة التي تحب أن تسمي نفسها السلطة الوطنية, بأنها وضعت خطة استراتيجية للتعامل مع "النفايات التركيعية", وهي خطة خماسية مؤقتة, استخدمتها كمرجعية وإطار استراتيجي لكافة القرارات والبرامج والأنشطة. مرت السنوات الخمس, ومرت بعدها 12 سنة, ولا زلنا نعيش في الفترة المؤقتة لإنجاز الخضوع والاستسلام.
-12-
زعمت السلطة أن الخطة التي وضعها "دهاقنة خبراء السياسة والاقتصاد" تعتمد المنهج العلمي, كأساس ودستور, ولو اقتصر التطبيق على الجانب الأمني فقط, لأن السلطة لا تتمتع بأي سيادة, سوى سيادة قمع شعبها, والمنتفضين على الإحتلال, ولكن قبل أن أشرح بنود الخطة بالتفصيل, لا بد أن اورد مقدمة تاريخية مقتضبة لشرح منهج القيادة في إعداد خطة الاستسلام, وقبل أن أتحدث عن المقدمة, يجب أن أفسر مفهوم "القمامة الوطنية".
-13-
القمامة هي المخلفات الصلبة والسائلة والغازية, وكلنا نرى ونشم تلك المخلفات في شوارعنا، وحاراتنا وحول منازلنا, وفي سمائنا؟ إن فيروساتها تغزو أجهزتنا التنفسية والهضمية والعصبية، فنمرض ونموت.
ولكن ماذا نقصد بمصطلح "القمامة الوطنية"؟.
-14-
الوطنية إحساس جميل نحسه تجاه الوطن والناس, ولكن عندما يتحول هذا الوطن إلى مكب قمامة, مخلفات أفكار, شراذم أرض، إحباطات لا متناهية, هزائم متكررة, استيطان مستمر, نهب ولصوصية وبغاء، رزمة أكاذيب, إتفاقات أضاليل, فساد سياسي, انتهاك للمبادىء, زلزلة للإقتصاد, مصائب, ضياع للأمل, تسيب وفوضى, أضف ما شئت من القاذورات, التي تخفي كل الآفات التي أصابتنا بأقنعة الزيف والتضليل الواضحة في خطاباتنا في المحافل والمؤتمرات والاجتماعات, عندما يتكرر ذلك كل يوم منذ عام 1994, تخفي السلطة مخلفات الاحتلال بكلمة وطنية.
-15-
بعد نضال دام سنوات طويلة قبل عام 1967, فشلت الانظمة العربية في تحرير فلسطين, وفشلت أيضا بعد عشرين عاما من ذلك التاريخ في تحرير أجزاء منها, باستثناء المرحوم الرئيس المصري أنور السادات, الذي قال لنا أنه حرر صحراء سيناء, بالمفاوضات, ولكنه نسي فلسطين، أو بعبارة أدق, كما قال بعضنا، قمنا نحن بركله, ولم نمشي خلفه, واتهمناه بالخيانة.
-16-
أدرك بعضنا, والمقصود هنا, القادة المتنفذون في منظمة التحرير الفلسطينية, بعد فوات الأوان, أن طريق السادات كان في الاتجاه الصحيح, وأعربوا عن ندمهم, لأنهم لم يتعاونوا معه، في ذلك الوقت, ولما أدركت القيادة"خطأها الإستراتيجي", بعد تصفية ضباطها وقياديها "المتشددين" سارت بقايا قيادتنا في نفس الطريق الذي مشاه السادات, محاولة حرق المراحل.قالت القيادة بسذاجة خبيثة: نفعل كما فعل أنور السادات ونحرر جزءا من فلسطين, بالمفاوضات.
كان تقليدا سمجا, ومخيبا للآمال, ومخزيا, لمن كان مهزوما أن يتفاوض مع المنتصر. فاجأت هذه القيادة العالم باتفاق أوسلو السري, فكان أوسلو ثمرة لجهود محلية وإقليمية وعالمية رعت هذا الاتفاق, وكان تتويجا لجهود وحوارات سرية انطلقت منذ سنوات السبعينات, بين نخب وأفراد من جانب قيادتنا ومن جانبهم, أي الجانب الإسرائيلي. واستمرت المفاوضات السرية بين المنتصر والمهزوم إلى أن تبلورت خطة السنوات الخمس التكتيكية, وأصبحت جزءا من استراتيجيتنا, ورؤيتنا لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة. وعيش يا كديش.
-17-
كان هناك آثارا سلبية ملموسة لهذه القمامة السياسية المتراكمة في عقل قيادتنا, النابعة من فشل التفكير الاستراتيجي. وقالت قيادتنا: لا بديل لنا, غير الاستسلام، وتذاكى البعض، فبرر لها ما فعلته وزعم أن الجزء الذي ستحرره بالمفاوضات وتقيم الدولة الفلسطينية عليه سيكون مرحلة أولى من مراحل تحرير كل فلسطين.
-18-
بناءً على كل ما سبق, ومن أجل إنجاز هدف التحرير, اعترفت قيادتنا بأن نضالها كان إرهابا، وتأسيسا على ذلك, خلعت قيادتنا ملابسها الوطنية قطعة بعد أخرى، إلى أن بانت سوءتها, وتغذى الكثيرون منا من هذه القمامة التي اطلقوا عليها المشروع الوطني.
-19-
الارض أرضنا, والقمح قمحنا, والماء ماؤنا, والهواء هواؤنا, بيد أن قيادتنا قبلت أن تدفع الإيجار للعدو, واشترينا قمحنا وماءنا وهواءنا, بعملة الدولار الأمريكي, وضمانة اليورو الأوروبي, وكان للريال السعودي دورا لا يمكن تجاهله, وتغذينا على القمامة: افكار ونظريات وقروض ومنح وتحولنا إلى رجال أعمال وقوات أمن تحمي اسرائيل.
-20-
يسمون ذلك مشروعا وطنيا, وأسميه قمامة.
-21-
كان المطلوب منا أن نضع خطة متوسطة الأمد وصولا لتحقيق خطة استراتيجية لإدامة الاحتلال, تحت سقف وهم دولة لا هي في العير ولا في النفير.
وتحدثت سلطتنا عن جودة الحياة تحت نير الاحتلال وأسهبت في التنظير عن النفايات التشريعية والتنظيمية والفنية والبيئية والمالية, وجاءت أحاديثها وتنظيراتها من مكب نفايات الاحتلال.
-22-
إننا نعيش في مجتمع "القمامة الوطنية", وهي المخلفات الصلبة والسائلة والغازية, التي تهدد سلامة البيئة والصحة العامة، ولها أثر سلبي على الاستقلال والحرية والكرامة.
هناك منظومة كاملة لإدارة "القمامة الوطنية", أفرزها اتفاق اوسلو في التسعينات, وقبل ذلك اتفاق كامب ديفيد الشهير بين إسرائيل ومصر السادات في أواخر السبعينات.
الأضرار الناجمة عن هذه القمامة, بطبيعتها الصلبة والسائلة والغازية, تتمثل بأنها حثت الكثيرين للتفكير بطرق التعامل معها, وتعميم هذا الفكر ليشمل كل البلدان العربية, لا يزال أنصار هذا التفكير يؤمنون بسلامة أفكارهم, متجاهلين أن الثورات العربية ستطيح بكل شيء.
فمنهم من اعتبر أن المخلفات الصلبة لاتفاق أوسلو ترياق للاستقلال. وسمعنا البعض يقول إن القمامة السائلة، مثل التطبيع الثقافي هي الدواء الشافي من أمراض الفقر والبطالة, وقيل إن القمامة الغازية الملوثة لمشاعرنا الوطنية تقضي على عواطف الإرهاب المسممة في دواخلنا.
-23-
رصدت الأموال الطائلة لإنجاح المشروع الوطني, نظمت المؤتمرات الكثيرة, لتدوير أفكارها ومبادئها, ومخلفاتها, وتكييفها لتعمل وفق ظروفنا, وطبيعتنا, ومعتقداتنا, لتحقيق التقدم والتنمية المتوازنة ورفع مستوى المعيشة للمواطن, وحماية "البيئة الوطنية" من التلوث بأفكار الارهاب وكان ذلك يتطلب اسقاط الحقوق الوطنية والتخلي عن حق عودة اللاجئين الفلسطينين إلى ديارهم, وبناء اقتصاد مستقل, وإنجاز التحرر وإقامة الدولة بدون نضال, أي بالمفاوضات فقط.
-24-
من سخريات القدر, أن الكفاح المسلح وحتى النضال السلمي الجماهيري أصبحا من المعوقات التي يجب إزالتها, ليتسنى "للمشروع الوطني" أن يعمل وفق انسيابات مجاري الصرف الصحي, لتحسين ظروف حياة المواطنين الشرفاء.
-25-
الامناء العامون لفصائل منظمة التحرير يسارها ويمينها ووسطها, وليبراليها, ومتشدديها انخرطوا في "المشروع الوطني" وصدقوا الكذبة الكبيرة, وهي الحصول على اعتراف نظري بالدولة الفلسطينية في أيلول.
-26-
تطلب منا السلطة, أيها السادة والسيدات, أن نتكاتف معا, لحماية "المشروع الوطني", الذي أصبح مهددا, بعد اندلاع الثورات العربية. وتطلب منا أن نبتكر طرقا حديثة للتعامل مع المخلفات الصلبة, لدينا مخلفات بمعدل كيلوا واحد لكل مواطن, ومثلها من السوائل, وفضاء واسع من الهواء الملوث.
ولا حل إلا بالشركات الأجنبية, المكونة من شريك إسرائيلي وشريك فلسطيني وبضائع توردها إسرائيل, لا يمكن الاستغناء عن الإقتراض من البنك الدولي, ولا حل إلا بما يقرره لنا دهاقنة خبراء السوق الحر الذين ابتدعوا صيغا جديدة لتكييف أجسامنا, وبرمجة عقولنا, وخاصة جهازنا التنفسي والهضمي, والعصبي لتقبل القمامة بأشكالها الثلاثة.
لا حل للأزمات المعضلة التي تواجهنا إلا بالجيش الأمني, نحن بحاجة إلى إنفاق مئات الملايين من الدولارات على حماية إسرائيل و "المشروع الوطني", وتحقيق الأمن والاستقرار للسلطة وليس للمواطن, الذي يتنفس ويشرب ويأكل القمامة بأمن واستقرار, لنقيم دولة فلسطينية محاطة بالسياجات والاتفاقات, ومحاصرة بالتعليمات وأنفاق المؤامرات, ومجزأة بالاسوار والتبريرات الأمنية.
-27-
لا بد من وضع الخطط بإسلوب علمي وشراء المعدات, واعتماد الاعتمادات المالية, للتنفيذ ليرضى الباشوات في تل أبيب وواشنطن وأوروبا وبقية النظام العربي عن السلطة. والمطلوب أيضا تحويل القمامة إلى طاقة, فإن داهمتنا أمراض السكري والضغط والسرطان, فنحن مستعدون لها. هذه هي قمامتنا, شاء من شاء وأبى من أبى, نعيشها هواءً وماءً وغذاءً, فسادا وخيانة وضياعا, والدولة الفلسطينية, هي حصاد القمامة, هواء الفساد, وماء الخيانة, وخبز الضياع.
-28-
يقولون إنها سلطة وطنية, نقول: عيب أن نسميها سلطة وطنية، بل مجموعة من اللصوص. يقولون إنه مجتمع مدني، نقول:عيب أن نسميه مجتمعا مدنيا, بل دكاكين متناحرة على الغنائم, تتاجر بالمبادىء, يقولون إنه اقتصاد وطني, ونقول: عيب أن نسميه اقتصادا وطنيا, بل اقتصاد التسول, يقولون إنه مشروع وطني, ونقول: عيب أن نسميه مشروعا وطنيا, بل ملوثات صلبة وسائلة وغازية يتغذى عليها الشعب الفلسطيني ويشربها ويتنفسها.
إلى لقاء آخر مع صيحة من صيحات الحقيقة المرة.